القلق المعرفي
منتـديات مكتـــوب الاستراتيجية للبحث العلمي MAKTOOB :: الابحــــاث التــربـويـــة والقـــانونيـــة والتـــاريخيـــة :: رسـائل ماجستـيــر ودكتـــوراة الابحــــاث التــربـويـــة والحقوقيـــة والتـاريخيــة و بـحـوث جـامعيـة جـاهــزة :: الابحاث التربوية
القلق المعرفي
وهي دعوة إلى توسيع علم النفس المعرفي عندنا وتنويعه ، وتجديده وإثرائه من حيث هو دينامي و ثقافي . دينامي هو علم النفس المعرفي في تعامله مع البنى المعرفية ومكوناتها ، ومع تفاعل وظائفها وعملياتها ، كما هو دينامي في استشرافه ثراء دلالاتها وتنوعها ، و استكشافه خصوبة إيحاءاتها وتجددها . علم النفس المعرفي هو ، بالضرورة ، علم نفس دينامي ، علم نفس العمق الدينامي ، علم نفس "الكل الدينامي"*. الكل الدينامي ، ذلك التكوين النفسي الفريد النفيس ، الذي بصرت به في اقتدار مبدع ، وأعلنته في جلاء مقنع ، جماعة الجشطالت . هذا الكل الدينامي ، هو الخاصية الأعلى والأنصع ، الأبرز و الأميز للبنية المعرفية وعملياتها . هو الكل النشيط في عملياته الذاتية ، عملياته في الخفاء ، في ما وراء الوعي ، في عمق الوعي ، في عمل حيوية الواعية الباطنة ، في عمل زمن الواعية الباطنة ، في عمل نزعات الواعية الباطنة ، نزعاتها إلى : الإكمال ، والانتظام ، والتنظيم والإضافة ، والحذف ، والتبديل والتغيير، والارتقاء والابداع . نزعاتها إلى : الاتساق والاتفاق ، الاستواء والامتلاء ، التعادل والاعتدال . هذا العالم المعرفي للواعية الباطنة ، الواعية في عمقها العامل العامر في تخفيه ، الناشط المؤثر في تستره ، لا يزال يدعو في إلحاح إلى من يرتاده ، متعرفا مستكشفا ، من جماعة علم النفس المعرفي عندنا ، في فتوتها وشبابها ، وأن توسعه آفاقا ، وتنوعه أعماقا ، وتثريه استبصارا وتفسيرا وتفهما.
ثم إن علم النفس المعرفي ثقافي ، ثقافي المضمون ، ثقافي العمليات ، ثقافي الدلالات ، ثقافي التوجهات . هو ثقافي بالتمثيل والتمثل الرمزي للمعرفية . التمثيل الرمزي لها إظهارا ، وتعبيرا ، وتجلية ، والتمثل الرمزي للمعرفية استدخالا واستيعابا واحتواء . وثقافي هو علم النفس المعرفي بالعمق التاريخي للمعرفية ، سواء أكان عمقا تاريخيا للذاتية المفردة ، أم عمقا تاريخيا للثقافية الجماعية .
وإن من توسيع علم النفس المعرفي عندنا وتنويعه ، من تجديده وإثرائه ، من جهتي ديناميته وثقافيته ، أن نحتفي بالمعرفية الأعمق ، والمعرفية الأعلى ، المعرفية في أغوارها ، و المعرفية في أعاليها ، المعرفية في رمزيتها الموحية ، و جماليتها الفاتنه . لم لا نشرع في إنشاء منحى مواز للتجهيزية ، يتواصل معها ، يتنامى في جوارها ، يتفاعل مع مستوياتها ، مما يؤدي إلى تنوع في المنظور المعرفي عندنا ، يخصبه ويثريه ، ويزيد فعاليته وينمي كفاءته ، ويرفع عنه برودة التوحد التجهيزية ونمطيتها وتكراريتها . منحى نقترب به من واقعية الظاهرة النفسية ، واقعية الوجود النفسي الحي للإنسان ، وجوده المعنوي الرمزي ، وجوده القيمي الأخلاقي ، وجوده الذوقي الجمالي ، وجوده القاصد الرجائي . وكمثال على الاستجابة لهذه الدعوة ، التي أرجو أن تأتي في المتهييء المرحب من أوانها ، أقدم قراءتي الأولية هذه على هامش ذلك النشاط المعرفي الممتد بين مستويات الوعي ، وسائر جوانب الشخصية وأبعادها ، ألا وهو القلق المعرفي.
عندما يبدأ منهج علم النفس ، والمعرفي منه بخاصة ، في النظر والتصور ، بافتراض العزل والانعزال في مكونات الوجود النفسي وعملياته ، وعندما يتحرك في الاستكشاف والتحقق بالتسليم بالتعارض والتضاد فيما بين هذه المكونات والعمليات ؛ فإنه بذلك يبدأ مُحتََََََََبسا في توهم خادع ، ويتحرك مُعطَّلا بضلالة كابحة . ومما يترتب على هذا ما نراه من اغتراب للبحث في علم النفس عندنا ، والمعرفي منه بخاصة ، سواء في تصوراته ، على الرغم من كثرتها ، أو نواتج بحوثه ودراساته ، على الرغم من وفرتها . لا ريب في أن جانبا من هذا الاغتراب عائد إلى ذلك الفصل المنافي لوحدة الوجود النفسي تكوينا ووظيفة ، وذلك التضاد المجافي للتواؤم والانسجام في بنية هذا الوجود النفسي وعملياته.
من هذا التوهم ذلك الفصل بين ما هو معرفي وما هو وجداني ، المباعدة العازلة بين المعرفية والوجدانية ، التسليم بأن المعرفي خاو من الوجداني ، والوجداني مفرغ من المعرفي . كأن كلا منهما من طبيعة مباينة تماما ، مغايرة كليا ، مبَّرأة قطعيا من أن يخالطها أو يمازجها أو يشوبها مس من الأخرى . كأن كلا منهما في واد منقطع عن الآخر ، فلا عجب أن يتشوش النظر إليهما وفيهما . واقع الوجود النفسي ، بل الوجود الحيوي في عمومه ، يوحي بأنه ما من معرفي إلا والوجداني متخلل بنيته وشعابه ، سار في تكوينه وعملياته ، هو الذي يبدؤه ويحركه ، هو الذي يدفعه ويحمسه ، هو الذي يوجهه ويحوله . ليست المعرفية وجودا باردا معتما صلدا لا وجدانية فيها . وكذلك الوجدانية ، إنها ليست تهيجا وفورانا ، ليست تخلطا و تخبطا ، بل إن المعرفية نابضة في عروقها ، منتشرة في خلاياها ، هادية لها وضابطة ، وحاكمة لها ومنظمة . الوجدانية إذن في صلب المعرفية ، والمعرفية في قلب الوجدانية.
ثم ، هل هما ، المعرفية والوجدانية ، متعارضان متضادان ، كما يسلم علم النفس ، والمعرفي منه بخاصة ؟ هل المعرفي ، بالضرورة موضوعي ، محايد ، متأن ، وبذا يعلو قدرا ويسمو تقديرا ، من حيث إنه يوثق به وبحكمه ، ويطمأن إليه في صدقه وحكمته ، ويرجى توفيقه وفعاليته ؟ و هل الوجداني ، بالضرورة كذلك ، ذاتي، متحيز ، مندفع ، وبذا يكون نصيبه التوجس من لا عقلانيته ، وغرارته ، والتشكك من تسرعه وتهوره ، والتخوف من رعونته وحماقته ؟
في مجاوزة مني لهذا التوهم عن العزلة والتضاد بين ما هو معرفي وما هو وجداني ، أنظر في القلق المعرفي الذي فيه يتحقق التواؤم بين المعرفية والوجدانية ، كما يتجلى فيه التوحد بينهما . أنظر فيه من حيث هو توافق وتكامل ، تدامج وتوحد بين المعرفية والوجدانية ، محاولا تعرف خواصه ، و استكشاف مصادره ، و التماس وظائفه ، ثم تبين كيف يكون التعامل معه تعهدا ورعاية.
ما الخواص التي تميز القلق المعرفي ، في اعتداله وسوائه ، عن القلق الذي هو من أعراض اضطراب في الشخصية يعطلها ويدفعها إلى خفضه أو الخلاص منه؟
من هذه الخواص :
1- توازنه، تعادلا وانتظاما ، إتساقا وتناغما، سواء أكان هذا التوازن في بنيته وتكوينه أم في وظائفه وعملياته.
2. خصوبته ، ثراء وامتلاء ، مما يبعث في الذاتية تجددا وتنوعا ، ويضفي عليها جاذبيةوتألقا ، ويغني مخزونها الخبري بمصادر وافرة تتزود بها وتستثمرها في علاقاتها وفي تعامله امــا يعترضها من كبد أو ضغط ، أو أزمة أو محنة.
3.حفزه ، إذ هو مستحِث ، محَّرك ، موَّجه في إيجابية توجهه ونمائيته . إنه ليس قلقا كابحا معطلا ، ولا مشوشا مبعثرا ، إنه من مكونات دافعية الذاتية ، ومن عناصر منظوماتها المستحِثّه الموجَّهة.
4. قصديته ، ذلك بأنه قلق واثق مترق . واثق ، على الرغم مما قد يكون فيه من تحير وتشكك ، غير أنهما يتحركان على أساس ثابت من اليقين بالقدرة والتمكن . وهو قلق ارتقائي التوجه ، إذ إن حفزه في اتجاه التحرك إلى الأوفق والأكمل والأجمل ؛ فهو في حثه راسم مخطَّط محدَّد مسارات حركاته ، وتتابع خطواته . القصدية ، لا العشوائية ، خاصية القلق المعرفي في سواء حفزه واستواء توجهه.
تلك الخواص المميزه للقلق المعرفي هي نتاج مصادر في البنية المعرفية الدافعية ، مصادر تنشيء هذه الخواص وتصوغها، تغذيها وتنميها ، وتنشطها ، وتستديمها .
من هذه المصادر:
1. اللانتظام في البنية المعرفية، متمثلا فيما بين مكوناتها وعناصرها ، أو عملياتها و تفاعلاتها من تنافر أو تعارض أو تضاد . ذلك مصدر من مصادر القلق المعرفي المحرك في اتجاه تجاوز التنافر إلى التواؤم والتوافق. كما يتمثل عدم الانتظام في التردد أو التحير في اختيار التوجه الذي تلتزمه الذاتية في تعاملها في موقف ما . وكذلك يتمثل في عدم الاستقرار على الوجهة التي تقصدها الذاتية ، أو عدم الالتزام بالمسار أو المسارات التي تتخذها ابتغاء وصولها إلى مقاصدها.
2. الإبهام ، بما هو إعتام معالم ، واختفاء ملامح ، وانمحاء حدود ، وخفوت علامات ، وتشوش تمايزات . الإبهام يمثل مصدرا بالغ القوة في تحريك القلق المعرفي بما يستثيره من مستويات متفاوتة العمق والشدة من هلع الخواء ، وفزع الضياع ، ورهبة الانقطاع ، وخشية السقوط في هوة الغموض ، وخوف التردي في هاوية العدم.
3. الفجوة ، أي النقص أو عدم الاكتمال ، مما يمثل فقرا أو عوزا ، رغبة أو حاجة إلى غلق المفتوح ، أو تعويض المفقود . تمثل الفجوة قوة ضاغطة ، أو تضاغطا ذاتيا للوصول إلى البنية الأكمل ، والصياغة الأمثل . ولا عجب ، أليس هذا من صميم عمل الكل الدينامي
4. الوفرة ، إذا كان النقص مصدرا محركا ومستفزا للقلق المعرفي ؛ فإن الوفرة أو الكثرة المفرطة ليست أقل استثاره وحفزا للقلق المعرفي . الوفرة في البيانات ، الزيادة في المعلومات ، التشعب في الاضافات ، التنوع في الإفاضات ، التشعب في الإفادات ، هذا كله يحدث في الكون المعرفي في عرفانية الذاتية أشكالا من الازدحام والتراكم ، من التعدد والتراكب ، من التشتت و التشوش ، ما يربك الانتباه ، و يرهق الادراك ، و يضلل التفسير ، و يحد الاختيار. كأن الوفرة تتحول في غناها الظاهر إلى فقر قاهر بما تعطله من الكفاءة المعرفية للذاتية ، حتى لتوشك أن تخرج القلق المعرفي من سوائه واستوائه ، إلى اعتلاله وسقمه . وما أكثر ما يكون الثراء المفرط فقرا مدقعا
5. المجاوزة، وهي نزعة الارتفاع بالقلق المعرفي والارتفاع عليه . الارتفاع به في اتجاه انتظام أكفأ والارتفاع عليه في اتجاه تكامل أرقى. ذلك بأن القلق المعرفي قلق تواق ، قلق راغب إلى التحقق على مستويات أعلى مما يصل إليه ، قلق دائم التطلع إلى الأصدق والأوفق . إنه قلق متحرر ، بل هو قلق تحرر ، قلق عائش على الدوام في تمرد على أسر واقعه ، في سأم من رتابة أحداثه ، في ضجر من نمطية حالاته ، في ملل من تماثل أحواله . هو قلق تؤرقه رؤى مثالات كماله وأشواقها . أليس هو قلقا خصيبا ومخصبا ، ثريا ومثريا ، ناهضا ومنهضا . هذه المجاوزة في القلق المعرفي لا ترغب ، ولا تعمل على خفضه أو اختزاله ولا تسعى إلى نفيه أو إلغائه ، إنها لا تريد منه خلاصا ، إذ هو قلق محبب إلى الذاتية أثير لديها ، بل إنها تحرص على استدامته وتجدده ، إذ هو مصدر من مصادر حيويتها ، في الوقت الذي هو باعث لها على الحركة في اتجاه انتظام يتجدد كفاءة ، والتقدم في مسعى تكامل يتحقق ارتقاء.
ابتداءً ، ما الوظيفة ؟
هي نسق منظَّم ، ومنتظم ، من عمليات قاصدة . هي نسق أي ليست مجرد تجمع ، وهو نسق منظَّم ، أي له مكوناته وعناصره ومستوياته وهو منتظم في حركته ، وتدرجه ، وإيقاعه متجها إلى هدف أو غاية .
وعندما ننظر في وظائف القلق المعرفي في ضوء هذا التصور للوظيفة ، نرى فيه توافقا وتكاملا ، وتدامجا وتوحدا ، ما بين ما تناولته من خواصه ومصادره . ليست الوظيفة منفصلة عن البنية وخواصها ، ولا منعزلة عن المصادر والقوى التي تشكل البنية وتصونها ، وتنشىء الخواص وتنميها . إن وظائف القلق المعرفي ، بمعنى ما ، هي خواصه ومصادره عاملة متفاعلة في توحد دينامي ، توحد من المعرفية الوجدانية ، أو الوجدانية المعرفية . و إنه من الممكن أن نتبين في التحليلات السابقة لكل من خواص القلق المعرفي ومصادره ، بعض العمليات التي يمكن اعتبارها وظائف صغرى للقلق المعرفي ، والتي منها مثلا ، عمليات : المواءمة في التنافر ، أو سد الفجوة ، أو إكمال النقص ، أو التدبير في الوفرة . أما الوظائف التي أتحول إليها الآن فهي وظائف
أ - كثر اتساعا وشمولا للذاتية . ب- أعمق غورا في جَوَّانيته . ج- لها بعدها الزمني في الذاتية ، فائتا ، ومتحققا ، ومتشكلا ، فائتا في ماضي الذاتية ، ومتحققا في حاضرها ، ومتشكلا في توقع مستقبلها وترجَّيه. ء- وآخرا ، أوفر حظا من الدفء ، والدفق ، مما يسري فيها من أشواق ارتفاع ، وأتواق ارتقاء ، تدفع الذاتية في كليتها وتكامليتها إلى تحققها الأعلى ، تحققها الأكمل ، تحققها الأسمى . أليس القلق المعرفي كلا ديناميا مستحثا إلى المجاوزة الطامحة إلى اكتماله واتساقه ، واعتداله وتعادله .
مما يتميز من هذه الوظائف الأكبر للقلق المعرفي ما يلي:
1. حركته وصولا إلى : التوازن ، والاستقرار ، والامتلاء في النسق المعرفي ، أو الكل الدينامي القلق .غير أن هذا التوازن توازن مؤقت ، إذ ليس من طبيعة دينامية هذا الكل الوقوف عند توازن دائم ، وكذلك فإن ما يتحرك نحو الاستقرار انما هو استقرار معلق، استقرار لا يلبث ان يتحول ، أو يتحور ، إلى اهتزاز واضطراب . وكذلك الأمر بالنسبة إلى الامتلاء بالمعنى ، أو التشبع بالصيغه ، إذ هو امتلاء ميال إلى الإفراغ ، يفرغ ليطلب إعادة امتلاء أو يسعى إلى متجدد من الامتلاء . ليس من طبيعة الوجود المعرفي التوازن المؤبد ، والاستقرار المجمد ، ولا الامتلاء المكتفي .
2. اتساع امتداد اعتداله في الذاتية : ذلك بأن القلق المعرفي له وجود محوري نشيط في بنية الذاتية وعملياتها وتوجهاتها ، ولذا فإن ما يحدث فيه من تغير في اتجاه اعتداله وسوائه يمتد ساريا وينتشر متشعبا في مختلف جوانب الذاتية وأبعادها ومستوياتها . من هنا فإن وظيفة من وظائف القلق المعرفي هي إسهامه ، معاونته ، في تحرير الذاتية مما قد يعتريها من اضطراب أو قلق غير سوي . أي أن القلق المعرفي في تعادل معرفيته ، و اعتدال وجدانيته مشارك مؤثر في تحرك الذاتية ، أو تحررها مما قد يحل بها من آثار ما يثقل عليها من كبد أو ضغط ، أو نتاج ما يرهقها من كرب أو قهر . القلق المعرفي السوي ، إذن ، له دور تحريري تيسيري في حال تأزم الذاتية.
3. توكيد خصوصيةالذاتية : القلق المعرفي متفرد جدا ، ذاتي جدا ، خاص جدا . إنه علامة من علامات توحد الذاتية في جوانية تكوينها ، وأصيل صوغها ، وانتمائية اختياراتها ، وتمايزية قراراتها . ذلك من سوائه وصحته وعافيته . أما القلق الآخر ، القلق المغترب ، القلق المعتل ، القلق المعَّطل فإنه عام متشابه ، متناظر متماثل في خواصه وأعراضه وعلاماته . الاعتلال إبهام لا تمايز فيه بين أفراده ولا تحدد ، لا تباين فيه بين عناصره ولا تفرد . الاعتلال تماثل . إنه تكرار من الوجود ، نمط واحد من التكوين والشكل والعملية . يميل الأدنى من الوجود إلى التشابه ، بينما الأرقى نزَّاع إلى التفرد ، تواق إلى التوحد . القلق المعرفي مستوى من الوجود النفسي الأرقى ، فهو تفردي تكوينا وصوغا ، توحدي حركة وتوجها . وبذا فإن دلالته ومغزاه ، بل جاذبيته ورونقه ، تتجلى في خصوصيته المميزة للذاتية في بروزها ، وفي توحده الممايز لها في تألقها . هذا من توكيد خصوصية وظيفته في الذاتية ، ومن اعلائها لتفردها وتوحدها .
4. الإنهاض الوجودي للذاتية: وذلك
أ – بالإثراء الادراكي : تفتحا ، وتراحبا ، وتقبلا ،
ب- بالعمق التفسيري : اقترابا ، وتنوعا ، وتعمقا ،
ج- بالإعلاء التقييمي: استيعابا ، ودقة ، ونزاهة ،
د- بالإرهاف الذوقي : إساغة ، واستمتاعا ، وامتلاءً .
هو إذن قلق مُنهض للذاتية بما فيه من :
قوة البنية وفتوُة التكوين ،
وحيوية الدفق وتلقائية الدفع ،
وتجَّدديه الحث وتواصلية التفاعل .
القلق المعرفي منهض للذاتية بما يتنامى فيه من أصيل التوق إلى الأكمل صوغا ، والأرقى معنى ، والأصدق قيمة.
5. وآخرا ، التجديد المترقي للذاتية: في القلق المعرفي إحياء وإحماء للحياة النفسية للذاتية ، مما يخرجها من خمولها وبلادتها ، ويحررها من نمطيتها وبرودتها؛ فإذا بها تتفتح على المغاير ، وتتقبل المباين ، وتقبل المُستَغْرب، بل الترحيب بالمضاد ، والإقبال على المناوىء . من هنا صدق تواصل الذاتية داخليا ، فإذا هي أهدى حدسا وأزكى بصيرة ، وكذلك سلامة تفاعلها مع الذاتيات الجارات ؛ فإذا هي أرشد قدرة وأقوم كفاءة . بنتاج قلقها المعرفي الخصيب تزداد الذاتية ثقة وطمأنينة وتراحبا ، فتنشط تنوعا وتجددا ، وتترقى إبداعا لذاتيتها قبل إبداعها من ذاتيتها.
كأن القلق المعرفي ضرورة وجودية للتحقق الأعلى للذاتية . هو كذلك بالصادق من سوائه واستقامته ، وبالأصيل من خصوبته وثرائه ، وبالمتجدد من توجهه ودفعه . كأنه ليس مجرد حاجة حيوية ، أو عوز نفسي ، بل ضرورة وجودية ارتقائية . ضرورة لتحرك الذاتية في تحققها الأسمى بالشريف من فضائلها ، والرفيع من شمائلها ، والكريم من سجاياها ، تحقق إنسانيتها الأكمل والأمثل.
وكم هو الانسان مدين ، في تاريخه الوجودي الارتقائي ، لذلك القلق المعرفي رفيع القدر، جليل الدور، متجدد الرجاء، موصول العطاء .
لما كان للقلق المعرفي ذلك التميز في خواصه ، والثراء في مصادره ، والكفاءة في وظائفه ؛ فإن من حقه ، بل من جدارته ، أن يحظى بالنصيب الأوفى من الاحتفاء والاهتمام ، مثله مثل كل قيَّم من مكونات الوجود النفسي للإنسان ، وكل نفيس من عملياته . محتاج هو القلق المعرفي إلى تعهد ورعاية ، وإنماء وترقية . ومن السبل إلى توفير هذا ، فيما أرى ، ما يلي :
1.الاحتفاظ بالقلق المعرفي في نطاقه السواء، فلا يعتل ، والاستواء فلا يضل ، والفعالية فلا يختل . الحفاظ عليه من أن يتحول منحرفا إلى القلق المرضي المعطَّل ، المشوَّش . بدل أن يكون قلقا مخصَّبا مثريا ، منهضا مرقيا . وهل يمكن أن يتحول القلق المعرفي السوي السليم إلى ذلك القلق المعتل السقيم ؟ نعم ، وذلك :أ - عندما يكون لدى صاحبه استعداد أو قابلية لمثل هذا التحول ، ب - إذا زادت ضغوط الوسط عن حد احتمال الذاتية أو إطاقتها ، أو جـ - إذا قصَّر الوسط الراعي ، المكترث ، الحريص في تقديم العون والتعويض ، أو في المساندة والتأييد . أولى مهام تعهد القلق المعرفي ، إذن ، هي حفظه، وصونه ، في نقائه وسوائه وكفاءته .
2. ترشيد الارادة المعرفية في شوقها وإقبالها وحماستها ونزوعها إلى التفتح والتجدد ، وإلى الاستزادة والتنامي . ومما ييسر إلى هذا الترشيد : أ- تأييد ثقة الذاتية بقدرتها ، أو قدراتها العارفة ، وعلى استمرارها في التعامل الفعال مع القلق المعرفي وتحمل أعبائه ، وتقبل تبعاته ، و ب- التدريب على اكتساب كفاءات التفاعل السوي مع مصادر القلق المعرفي ، التي منها : تحمل الغموض أو إطاقة الإبهام ، والأناة مع الاضطراب ، والاصطبار على التشوش ، وإرجاء الغلق ، واجتناب إغراق الوفرة، والتحرر من أسر التفصيلات والارتفاع عليها ، والتوجه إلى الكلية ، والتماس الانتظام وتحري النظام . و جـ- تقييم التوجيه الذاتي ومساراته في التعامل مع القلق المعرفي والاستعداد لتغييره أو تصحيحه ، حتى تكون الذاتية على درجة أو ثق من الطمأنينة في تعاملها مع مختلف أشكال القلق المعرفي ومصادره ومظاهره . و د- آخرا ، رضا الذاتية وترحيبها واستمتاعها بما تحققه من تفتح وتنام من نتاج توفيقها في تعاملها وتفاعلها مع قلقها المعرفي . المكافأة الذاتية ، مكافأة الذاتية لنفسها خير زاد لإحياء الرجاء الارتقائي في وعيها وإرادتها . هذه الكفاءات تيسر ترشيد الإرادة المعرفية ، واستدامة حيويتها ، وتسديد وجهتها.
3.عون الوسط المربي المكترث ، المهتم ، الراعي ، الحريص، الودود ، المؤتمن ، وليس أي وسط . ليس وسطا لاهيا غافلا ، لا تكون لذاتية الفرد فيه قيمة ، ولا لرفاهيتها معنى ، ولا لتقدمها ونمائها قدر أو تقدير . هذا وسط أبكم ، سالب ، وقد يكون بسلب وجوده هذا معطَّلا لتفتح الذاتية وازدهارها ، ومكبَّلا لتحققها وترقيها . أما الوسط المربي المكترث فهو الوسط الذي له دور إيجابي في التعامل مع مختلف جوانب الذاتية ومستوياتها ، وأبعادها وعملياتها ، كما هو مع القلق المعرفي بوجه خاص ، والذي يتمثل في:
1.الإحساس بأهمية تعريف والتعامل معه تربويا . لا أحسب أن الوسط المربي على دراية حقيقية بذلك القلق المعرفي ، وعلى استعداد لأن يتقبله ، وأن يتعامل معه على أنه عنصر من عناصر التواصل المربي مع الذاتية المتنامية . الذاتية التي تتحقق وتتكامل ، تكتمل وترتقي من جهة القلق المعرفي المستحِث ، المحَّرك ، الموجه ، بقدر ما تتنامى بما سواه من عمليات الاتزان والاستقرار والثبات . إنه عنصر من عناصر التنشيط للذاتية في كليتها ، وليس لجانبها المعرفي فحسب . الالتفات إلى القلق المعرفي وتقبله متمم لفعالية الخبرة المربية وكفاءتها.
2. هو قلق حقا ، ولكنه قلق له تفرده وتميزه ، له خواصه التي على الوسط المربي أن يتبينها ، وأن يتعامل معه في ضوئها . إنه قلق سوي خصيب ثري. وإن الالتفات إلى القلق المعرفي والدراية به وتقبله وإدراك سوائه واستوائه ، وخصوبته وثرائه ، كفيل بأن يجعل موقف الوسط المربي منه موقفا إيجابيا في استثماره في نمائية الذاتية وإثرائها.
3. وحتي يستنير الوسط في تعامله مع القلق المعرفي ، عليه أن يتعرفه عن قرب ، وأن يتفهمه في عمق ، وأن يتقبله في إحاطة . ذلك أضمن أن يكون ذلك الوسط أكثر رشدا ، وأقدر على أن يحقق ما يرجوه ، ويُرجي منه ، من مرام وغايات . وإنه من الممكن أن يفيد الوسط المربي بما أقدمه من تصور نظري مبدئي في هذه المقالة عن القلق المعرفي : خواصه ، ومصادره ، وظائفه ، يفيد في تعرفه وتفهمه وتقبله ، مما قد ييسر له رشدا أكثر استنارة ، وقدرة أكثر فعالية . التصور النظري عن القلق المعرفي ، مهما تكن مبدئيته ، أو حتى بدائيته، يمثل موجها وهاديا للوسط المربي في التعامل الواقعي مع توجهات الموقف المربي وتفصيلاته وتفاعلاته .وعلى وجه العموم ، فإن التصور النظري البصير ، الواضح ، المرن يضمن اجتناب عشوائية مسعى الوسط المربي ، وتشتت مواقفه ، وتبدد طاقاته . وحقا ما قيل من أنه ما من شيء أكثر عملية وأجدى فعالية من نظرية أو تصور ذهني جيد الصياغة . ولعل أخطر ما يعاني منه فكرنا التربوي فقره في التصورات النظرية ، أو ، الأصح ، قصور همته عن تكبد عناء ، وعناء هو ، البناء النظري الأصيل ، الجيد ، المبدع.
4. المشاركة في صون سواء القلق المعرفي واستقامته ؛ صون فعاليته وكفاءته ، وكذلك مشاركة الوسط في ترشيد الإرادة المعرفية ، وتثبيتها ومثابرتها في الاستمرار في موقفها الإيجابي الواثق . مشاركة الوسط المربي في صون القلق المعرفي سويا مستقيما ، وترشيد الإرادة المعرفية في التعامل معه ، من أقيم عطاءات عون الوسط المربي المكترث للقلق المعرفي وللذاتية في كلية وجودها ، وحيوية وظيفتها.
5. وإن من فطنة هذا الوسط المربي المكترث ، وحصافته ، أن يمتد اهتمامه ، ويتسع عطاؤه ، من التعامل مع القلق المعرفي إلى عموم المعرفية الذاتية ، الذاتية في مختلف جوانبها ، وتعدد مستوياتها ، إدراكا وتفسيرا ، وتقديرا وتقييما واستيعابا وحفظا ، وذوقا واثراء ، وتنويعا وإبداعا ، وقد سبقت إشارة إلى هذا في معرض تأمل وظائف القلق المعرفي .
6.وأن من حكمة الوسط المربي الواعي الحريص ، أن يتخذ من تعامله الإيجابي مع القلق المعرفي مرتكزا لتنامي الجسارة المعرفية ، إقداما واقتحاما ، مغامرة ومخاطرة ، استمرارا ومثابرة ، ثقة وثباتا ،
ذلك بأنه من أعز أمانات تربيتنا
ذاتيا قوميا تاريخيا
معرفيا أخلاقيا ذوقيا
أن تعادل
أن تقابل
أن تضاد
السلب المعرفي بالإيجاب المعرفي
الإنصياع المعرفي بالإستقلال المعرفي
الخنوع المعرفي بالتحدي المعرفي
الوهْن المعرفي بالشجاعة المعرفية
الاستخذاء المعرفي بالجسارة المعرفية
والقلق المعرفي ، بما يحتشد فيه من تنافر وتضاد ، ويتزاحم فيه من تعقد وتركيب، وما يهيم فيه من غموض وإبهام ، وما يتخلله من فجوات وثغرات ، وما يتضايف فيه من تجاذبات وتضاغطات ، القلق المعرفي بما هو مُترع به من المحفَّزات ، وما هو مشبع به من المستحِثات ، يمثل الحقل الأخصب ، والمرتع الأرحب ، الذي فيه تتطلق الجسارة المعرفية متحررة في مغامرتها ، مشتدة في مخاطرتها ، متنامية في كفاءتها ، واثقة باقتدارها .
إن ما في القلق المعرفي من خصوبة وثراء ، ومن حيوية وطاقة ، ليست مجرد مهيئات فيه أو ممكنات للاستثمار المربي في تنامي عناصر الإيجابية المعرفية فحسب ، بل إنها داعية ومستحِثة ومنشطة وموجهة للجهد التربوي أن يستجيب لها ، ويتعامل معها تعاملا قاصدا مرسوما لإرساء أصول موقف جسور ، وتوجه شجاع في عميق التكوين المعرفي الأخلاقي الذوقي للذاتية.
في دعوة إلى توسيع علم النفس المعرفي عندنا تختار المقالة القلق المعرفي في سوائه ليكون مثالا للاستجابة النظرية لهذه الدعوة ، ومهتدية بما تؤكده المقالة من تقارب وتوحد بين ما هو معرفي وما هو وجداني تقدم تصورا مبدئيا عن : خواص القلق المعرفي ، وهي : توازنه ، وخصوصيته ، وحفزه ، وقصديته ، وعن : مصادره وهي اللانتظام ، والإبهام ، والفجوة ، والوفرة ، والمجاوزة . أماوظائف القلق المعرفي فهي : تحركه في اتجاه التوازن والاستقرار والامتلاء في النسق المعرفي ، التي هي حالات مؤقتة ، أو معَّلقة ، أو مُفَّرغة . وظيفة أخرى هي امتداد عمل القلق المعرفي في اتساع الذاتية ، وكذلك عمله في توكيد خصوصية الذاتية ، ودوره في الإنهاض الوجودي للذاتية ، وآخرا تجديده المترقي لها . وإذ تنتقل المقالة إلى تعهد القلق المعرفي ورعايته تركز على ضرورة الاحتفاظ بالقلق المعرفي في نطاق سوائه واعتداله ، وترشيد الإرادة المعرفية التي هي القوة الأكبر وراء نشوئه واقتداره ، ثم تتناول المقالة مهام الوسط المربي المكترث في رعاية القلق المعرفي مركزا على: الحاجة إلى الالتفات إليه وتقبله ، والحرص على ايجابية دوره نمائيا وإثرائيا . وحتى يحقق الوسط المربي مهامه تلك عليه أن يتبنى تصورا نظريا عن القلق المعرفي السوي في إطاره ، ويهتدي بتوجيهه . وإن في التصور النظري الذي تقدمه المقالة ما يعين في هذا الصدد . وتبرز المقالة حرص الوسط المربي على أن يتعامل مع القلق المعرفي في سياق عموم المعرفية الذاتية وليس منعزلا عنها . وتبين المقالة أن من حكمة الوسط المربي المكترث أن يتخذ من القلق المعرفي مرتكزا لتنامي الجسارة المعرفية ، مؤكدا أن القلق المعرفي بخواصه ووظائفه ، يمثل المجال الأنسب ، والحقل الأخصب الذي فيه تنبت الجسارة وتشتد وتزدهر .
محمد الواسطي- ☆ الأعضاء ☆
- جائزه تسجيل للعام 10 اعوام
- عدد الرسائل : 1
الابراج :
احترام القانون :
نقاط : 5262
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 08/11/2010
رد: القلق المعرفي
ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ
♔ اَلَملَكهَ بَلَقَيــس♔- ♔ السمو الملكي ♔
- جائزه تسجيل للعام 10 اعوامجائزه الاعجاباتتاج 100 موضوعتاج المواضيعجائزه المواضيع امميزهعدد المشاركات بالمواضيع المميزهوسام التميزجائزه التميز
- عدد الرسائل : 3257
العمل/الترفيه : /لـآ شَي أوجَع منْ الحَنينْ ..~
الابراج :
الموقع : هوَ يشَبِه السّعادَةَ ؛ كلِ ماَ فكَرت فيَه ابتسَم !*
احترام القانون :
المزاج : ♡༽رفُُقُُآ بًًنِِبًًض قُُلََبًًيََ༼♡
نقاط : 56489
السٌّمعَة : 43
تاريخ التسجيل : 26/02/2008
تعاليق : الحب يزهر إذ التقينا بما يجمعنا لا بما يعجبنا !
رد: القلق المعرفي
يقيم
ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ
إنتبه !
نحن لانود اجباركم على الرد بأى وسيله كانت كاخفاء الروابط حتى يتم الرد اولا وغيرها
من الوسائل المهينة في نظري لشخصية العضو فلا تحبط من قام بتسخير نفسه لكتابة الموضوع ورفع محتوياته..
فلا تبخل وارفع من معناوياته ولن يكلفك مثلما تكلف هو بوضع ما يفيدك فقط اضغط على الرد السريع واكتب شكراً
وأنت المستفيد لأنك ستولد بداخله طاقه لخدمتك كل ما نريد هو ان تفيد وتستفيد بشكل أكثر تحضرا
وشكرا للجميع
محمد جعفر- ♕ المعالي ♕
- جائزه تسجيل للعام 10 اعوامتاج 100 موضوعتاج المواضيععدد المشاركات بالمواضيع المميزهجائزه المواضيع امميزه
- عدد الرسائل : 840
العمل/الترفيه : اخصائي نفسي تربوي
الابراج :
الموقع : فلسطين
احترام القانون :
المزاج : ربنا يسهل
نقاط : 11538
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 18/11/2010
» العلاج المعرفي السلوكي
» التنافر المعرفي أو Cognitive Dissonance
» المدخل المنظومي والبناء المعرفي
» القلق والتوتر النفسي
منتـديات مكتـــوب الاستراتيجية للبحث العلمي MAKTOOB :: الابحــــاث التــربـويـــة والقـــانونيـــة والتـــاريخيـــة :: رسـائل ماجستـيــر ودكتـــوراة الابحــــاث التــربـويـــة والحقوقيـــة والتـاريخيــة و بـحـوث جـامعيـة جـاهــزة :: الابحاث التربوية