قبل حوالي 20-23 ألف سنة من الآن، وفي موقع يدعى (مالتا) في سيبيريا، كان في ما يبدو مخيماً صيفياً للصيادين الجوالين، ثكلت أم بابنها الطفل، فدفنته في المخيم الذي يقع على الضفة اليسرى لنهر بيلايا Belaya، على بعد مئة كيلومتر من بحيرة بيكال Baikal، قرب مدينة إركوتسك Irkutsk الروسية.
وفي العام 1929 حفرت بعثة أثرية بقيادة عالم الآثار الروسي م. م غيراسيموف الموقع فعثرت على مدفن الطفل، وعثرت قرب رفاته على لوح محفور من ناب الماموث، طوله 13.8 سنتيمتر وعرضه 8.1 سنتيمتر. ويبدو أن اللوح كان معلقاً في عنق الطفل. لكننا لا ندري إن كان معلقاً في عنق الطفل في حياته ثم دفنته أمه معه، أي إن كان يخصه قبل الموت، أو أنه علق في عنقه بعد الموت.
أياً كان الأمر، فإذا كان معلقا في عنق الطفل فهو يعني أن اللوح استُخدم ربما كتعويذةً. أي أن الطفل وضع في ما يبدو في عهدة ما نسميه الآن بالآلهة، أي في عهدة القوى التي تدبر الكون. وهو ما قد يعني وجود إيمان ما بطراز من حياة ما بعد الموت. وقد سمي اللوح باسم: لوح مالتا أو إبزيم مالتا Mal’ta Tablet, Mal’ta Plaque، Mal’ta Buckle، لأنه يشبه من حيث الشكل إبزيم الحزام. لكنني أفضل أن أسميه (تعويذة مالتا).
ومن هذه التعويذة التي علقتها الأم السيبيرية الثكلى في عنق طفلها، بدأت القصة التي رويتها في كتابي (سنة الحية: روزنامات العصور الحجرية). إنها مفتاح القصة كلها، قصة روزنامات العصر الحجري القديم الأعلى (حقأ)، أي قصة سيطرة إنسان هذا العصر على الزمن، السيطرة التي كانت في الواقع بدء ما نسميه اليوم بالحضارة. لكنها ليست قصة عصر (حقأ) فقط، بل أيضاً قصة العصور الحجرية التي أعقبته، أي قصة العصر الحجري الأعلى الوسيط، والعصر الحجري الحديث. بذا فهي قصة الوعي البشري في طفولته، التي أنتجتنا نحن لاحقا.
التعويذة
تتكون التعويذة، التي تملك ثقباً للتعليق من منتصفها، من وجهين حُفرت عليهما أشكال محددة. على الوجه الأول رسم بالثقوب، عدد من اللوالب الحلزونية. وفي المركز منها لولب مركزي يأكل نصف هذا الوجه تقريباً. هذا اللولب، أو الحلزون الكبير، تشكَّل عبر 243 ثقباً أو حفرة غير نافذة. وعلى أحد جانبي هذا اللولب هناك ثلاثة لوالب حلزونية أخرى، الذي في المنتصف منها أصغر حجماً. وبالقرب من هذه اللوالب الثلاثة هناك خط متعرج قليلاً مكون من عشرة ثقوب. أما على الجانب الثاني فهناك ثلاثة لوالب أخرى كذلك، لكن الثالث منها متصل بلولب رابع صغير. وقرب اللولب الصغير هناك شكل هلالي، نصف دائري، مكون من 14 ثقباً.
بذا، فلدينا على الجانبين سبعة لوالب مصنوعة هي الأخرى بالثقوب، إضافة إلى اللولب المركزي والشكل الهلالي والخط المتعرج. اللوالب السبعة على الجانبين، مع الأشكال المضافة، تتكون من 244 ثقباً، أي بما يزيد بثقب واحد عن ثقوب الحلزون الكبير. والرقم 244 هذا موزع بالتساوي شمالاً ويميناً: 122 ثقباً على اليسار و122 ثقباً على اليمين.
أما على الوجه الثاني فهناك ثلاث حيّات متموجات منسابات لا غير. وهي حيّات محفورة حفراً، وليست مثقبة تثقيباً كما هو الحال في الوجه الأول. وهي مختلفة الحجم. ويظهر هذا الاختلاف أكثر ما يظهر في حجم الرأس على وجه الخصوص. فالرأس الأضخم هو رأس الحيّة التي تقع في الوسط. أما الحيّة اليمنى فرأسها متوسط الحجم. في حين أن رأس الحيّة اليسرى أضأل وأنحل. ومن الواضح أن من حفر الحيّات كان يريد أن يجعلنا نرى الفرق في أحجام الحيّات من خلال أحجام رؤوسها أساساً.
هذا هو كل ما تقدمه لنا التعويذة على وجهيها.
فهل نحن مع خربشات ضئيلة المعنى على قطعة من ناب ماموث، أم أننا مع (نص سمين) كتب قبل أكثر من 20 ألف سنة من الآن، ونظّمت أشكاله و(أرقامه) بشكل منطقي، وأن بالإمكان الكشف عن هذا المنطق، والحصول على المعلومات التي يحويها؟
نحن نحكم أنه نص منطقي، وأنه يحوي ثروة من المعلومات عن العصر الحجري القديم الأعلى (حقأ) ومواقيته ومعتقداته. كما نحكم بأننا نستطيع أن نفهم هذا النص وأن نفكّ ألغازه. فكل (نص) أنتجه الإنسان عن وعي وقصد يمكن في النهاية فهمه. فما بالك حين يكون هذا النص رياضيا في جزء منه على الأقل؟
نص تعويذة مالتا
قُدمت اقتراحات عديدة حول التعويذة ومعناها اختصرها باحثان هكذا:
1- إنها روزنامة سنوية، شمسية أو قمرية، أو شمسية- قمرية 2- إنها قطعة فلكية عن دورات نجوم محددة، 3- إنها صورة لرؤية شامانية ما للكون 4- إنها خارطة تخطيطية مبسطة لبلدة مالتا ذاتها 5- إنها قطعة سحرية لمواجهة الشرور. Alfredo Prieto and Rodrigo A. Cárdenas, The Mal’ta Ivory Plate: A Paleolithic Mnemonic of Leather Technology?, 2010
وقد أضاف الباحثان اقتراحاً آخر يقول إن الحفر الحلزوني على الوجه الأول يمثل مخططاً مبسطاً لتكنيك إنتاج السيور والأشرطة الجلدية في العصر الحجري القديم الأعلى (حقأ). وباستخدام هذا التكنيك يجري وضع قطعة الجلد على نموذج مكبر للوح، ثم تتبع الثقوب بمشرط ما، بدءاً من الثقب الداخلي نحو الخارج، حتى الحصول على السيور.
وهكذا، يمكن لتعويذة مالتا أن تكون أي شيء. لكن الفرض العام عند كتلة كبيرة من الباحثين أن الثقوب على الوجه الأول للتعويذة تمثل أرقاماً، وأن كل ثقب يساوي رقما واحدا في حساب يمثل روزنامة ما في أغلب الظن.
أما ألكسندر مارشاك فمس التعويذة مساً خفيفاً، رافضاً أن يتعامل مع أرقامها المثقبة. ذلك أن جزءاً من القطعة كان قد كسر أثناء الترميم، فأعيد بناؤه بالشمع، ورُقّم استناداً إلى المسافات بين الثقوب في الجزء السليم.
أما أنا، فقد افترضت أن العدّ الذي جرى عند ترميم القطعة كان سليماً، وأنه يعكس العد الأصلي. وإذا تمكنت عبر التعامل مع هذا العد من الحصول على شيء جدي عن روزنامات العصور الحجرية ومعتقداتها فإن ذلك سيؤدي إلى تثبيت مصداقية العد وتأكيده.
الرقم 243
إذن، فقد مات طفل سيبيريا قبل أكثر من 20 ألف سنة، لكن اللغز الذي كان معلقاً في عنقه ظل يشغل الباحثين والهواة في الكرة الأرضية بمجملها منذ ما يقرب من مئة عام. وقد ظل الرقم 243، رقم اللولب الكبير، دوماً مركز اللغز وبابه معاً. فكل محاولة لحل اللغز يجب أن تبدأ منه. فالافتراض أن الثقوب الـ 243 أرقام، وأن الأرقام لغة ظلت كما هي منذ أن اخترعت. بالتالي، فنحن نستطيع فهمها بقدر من التأكيد والوثوق. ويمكن لي بناء على ذلك القول إن القطعة تطرح الأسئلة التالية:
1- ماذا تمثل اللوالب الحلزونية على الوجه الأول؟ أي ما الذي رسمه الحفار حين رسم اللوالب؟
2- لِمَ يأخذ الرقم 243 شكل لولب، أو حلزون، وليس شكلاً آخر؟ وبتعبير آخر: هل هناك علاقة بين الرقم 243 وبين الشكل اللولبي الذي يتخذه؟ أو بعبارة أكثر عمومية هل هناك من رابط بين الأشكال والأرقام على القطعة أم أنه لا رابط بينهما؟
3- ما علاقة الحيّات المنسابات على الوجه الثاني بالحلزونات على الوجه الأول؟ هل هناك علاقة، أم أن كل واحد منهما يسبح في عالمه الخاص؟ ويمكن صوغ السؤال على النحو التالي: ما علاقة هذه الحيّات المنسابات بالأرقام التي على الوجه الأول؟ أي ما علاقتها بالرقم 243 على وجه الخصوص؟ وهل يعبر هذا الرقم عنها أيضاً، أم أنه مرتبط باللوالب الحلزونية فقط؟
وأنا أعتقد أن الإجابة على السؤال الأول "ماذا تمثل اللوالب الحلزونية؟" هي المفتاح. وإن أجبنا إجابة سليمة عليه فسينفتح لنا باب القطعة في ما أظن.
أما إجابتي على هذا السؤال فهي التالية: اللوالب الحلزونية على الوجه الأول تمثّل حيّات متطوّيات، متلوّيات، مترحّيات، متكعّكات coiled snakes. نعم هكذا: اللوالب حيّات متطويات. وإن صح هذا، فإن لدينا في القطعة حيّات متطوّيات على الوجه الأول، وحيّات منسابات متموجات على الوجه الثاني. وبما أن التطوّي هو حركة البيات الشتوي للحيات، فإن لدينا حيّات في بياتهن على الوجه الأول، وحيّات خارج هذا البيات على الوجه الثاني. بذا فالتعويذة تصور لنا وجهين متعاكسين متضادين:
1- وجه يمثل فترة بيات الحيّات وتطويهن ونومهن.
2- ووجه يمثل فترة خروج الحيّات من هذا البيات.
هذا هو الاستخلاص المنطقي البدئي. وإذا صح هذا الاستخلاص، فهو يعني أن ثمة (منطقاً) مشتركاً بيننا وبين أهل عصر (حقأ). كما قد يعني أيضاً أن الثقوب الـ 243 التي تشكّل اللولب المركزي تمثل فترة تطوي الحيّات، أي فترة بياتها الشتوي. بالتالي، ففترة البيات تساوي 243 يوماً من سنة لا نعرف مقدارها بعد. هكذا تقول فرضيتي. هناك سنة لا نعرف مقدارها، بها فترة تبيت فيها الحيّات 243 يوماً. وإن صح هذا، نكون قد وضعنا المفتاح في قفل القطعة ودوّرناه.
وفي الحق، فإن كثيرين قبلنا فهموا أن الثقوب تساوي أياماً في روزنامة ما، في توقيت ما. لكن الجديد عندنا هو أن الرقم 243 مرتبط بتطوّي الحيّات وبياتها. إنه رقم الحيّات في بياتها. أو هو روزنامة بيات الحيّات.
أعرف بالطبع أن الرقم 243 يبدو فترة طويلة لبيات الحيّات. فالحيّات الواقعيات لا تبيت بهذا المقدار. لكنني سأعرض لهذه المسألة لاحقا. ويمكنني أن أشير الآن فقط إلى أن الحيّات هنا استعارة لشيء سنتعرف إليه في ما بعد. إنها حيّات استعارية وليست حقيقية. بناء عليه، فلنتقبل، مؤقتاً على الأقل ولغرض الجدال، أن هناك فترة بيات للحيات مكونة من 243 يوماً.
الرقم 244
إذن، يبدو أنه كانت هناك روزنامة في مالتا بسيبيريا فيها فترة بيات تساوي 243 يوماً. لكننا لا نعرف مقدار هذه السنة، أي لا نعرف عدد أيام الفترة المضادة لفترة البيات التي نفترضها، أي فترة الخروج من البيات التي يبدو أن الحيّات المنسابات على الوجه الثاني تمثلها.
لكنّ التساؤل عن الرقم 244 على جانبي اللولب الكبير ربما فتح لنا باباً لزيادة معرفتنا عن سنة مالتا هذه. والسؤال هنا هو: لماذا يزيد هذا العدد برقم واحد فقط عن الرقم 243؟ وما معنى هذه الزيادة؟ ثم لماذا ينقسم الرقم 244 إلى رقمين متساويين على الجانبين: 122 و 122؟
قد يفترض المرء أن الرقم الزائد وجد نتيجة خطأ في ترقيم القطعة عقب انكسارها اوإعادة ترقيم القسم المتكسّر منها. إذ أن جزءاً من القطعة تحطّم، وأعيد بناؤه بالشمع وترقيمه، كما ذكرنا من قبل. وهذه الفرضية تعني أن الرقم الأصلي على الجانبين يجب أن يكون هو الرقم 243 بالضبط. لكن هذا الفرض يحطم فكرة المساواة والانتظام التي يبدو أن الوجه الأمامي للتعويذة بني عليها. فحذف الرقم "الزائد" يوجب أن نكون مع رقمين مختلفين على الجانبين: أي مع 122 و 121. وهذا كسر للتناظر والمساواة في قطعة يبدو أن التناظر مهم فيها. لذا دعنا نجرب أن نتقبل وجود الرقم 244، وأن نقبل أصالته. فلعل هذا يدفعنا خطوة أخرى إلى الأمام لفك صندوق الألغاز الذي أمامنا.
مشكلة الكسر
وانطلاقاً من القبول بالرقم، فأنا أقترح أن حافر الروزنامة، أو مصممها، كان يريد وعبر الرقم 122 المكرر على الجانبين أن يقسم لنا الرقم 243، أي رقم الحلزون الكبير، إلى قسمين متساويين. أي كان يخبرنا في الواقع أن رقم اللولب الكبير، رقم الحيّة الكبيرة المتطوية، يساوي قسمين متساويين من سنة تعويذة مالتا، لا قسماً واحداً فقط. وهو ما يعني أن فترة البيات المكونة من 243 يوماً تساوي قسمين من أقسام سنة مالتا التي لا نعرف مقدارها بعد. بذا، فالرقم 243 ليس كتلة واحدة، بل هو كتلتان اثنتان متساويتان ضُمتا إلى بعضهما. وهذه، إن صح ما أفترض، معلومة مهمة أخرى مهمة تبوح لنا بها تعويذة مالتا عبر الاستنتاج المنطقي.
لكن هناك مشكلة في هذا. فقسمة الرقم 243 على اثنين تعطينا الرقم 121.5 لا الرقم 122. فكيف نحلّ هذه المشكلة؟
للإجابة على هذا السؤال ليس لنا سوى افتراض أن نصف الرقم الزائد نابع من عدم القدرة على كتابة الكسر. فأهل ذلك العصر كان يعرفون الكسر، لكنهم لا يملكون طريقة لكتابته. فلم يكن بإمكانهم مثلاً حفر نصف ثقب والقول: هذا نصف رقم. بالتالي، كان عليهم حين تواجههم مشكلة كسر أن يدوّروه، كي يصير رقماً تاماً، أو أن يحذفوه. وقد اختار مصمم تعويذة مالتا تدوير الكسر إلى رقم، أي أنه كتب 122 بدل 121.5. وهكذا حصلنا على الرقم الزائد على الجانبين، وصرنا بذلك مع الرقم 244 بدل 243. ولو أنه حذف الكسر وكتب 121 لكنا قد وصلنا إلى الرقم 242، إي إلى رقم ناقص.
بناء عليه، فلدينا في سنة تعويذة مالتا فصلان كل واحد منهما مكون من 121.5. لكننا لا نعرف عدد فصول هذه السنة. ولو افترضنا أنه ثلاثة فصول، فإن الحيات المنسابات الثلاث تمثل هذا الفصل المكون من 121.5 يوم. وهكذا هناك فترة بيات تساوي فصلين، أي 243 يوما، وفصل خروج من البيات يساوي 121.5 يوم. بذا فسنة تعويذة مالتا تساوي: 364.5 يوم.
وجود الكسر في نهاية كل فصل يوحي بأن عدد أيام الشهور يجب أن تنتهي بكسر أيضا. بذا فالفصل مكون من ثلاثة أشهر، في كل شهر: 40.5 يوم. عليه، فشهور سنة مالتا تسعة أشهر في كل منها 40.5 يوم: 9×40.5= 364.5 يوم. أي أنها سنة قريبة من سنتنا الشمسية.
لكن السؤال هو: هل كان أهل مالتا، وأهل العصر الحجري القديم الأعلى يطاردون الحيات من أجل بناء روزناماتهم؟
والجواب: لا، بالطبع. فالحيات استعارة كما قلنا. استعارة لحركة الماء العذب في الكون، وعلى الأخص لحركة الاء السفلي. فهذا الماء له حركتان: حركة ينام فيه متطويا في الأعماق، وحركة يخرج فيها من البيات ويحرك متموجا على سطح الأرض. بالتالي، فهو يتصرف كالحية تماما. أي أنه فترة بيات وفترة نشاط. الماء هو الحية- والحية هي الماء. لهذا استعيرت الحية للتعبير عن حركة الماء.
وأفضل تمثيل لحركة الماء السفلي هي حركة نهر النيل. فالنيل له حركتان: حركة يصعد فيها ماؤه إلى سطح الأرض ويفيض، وهي تبدأ من أواخر حزيران وتنتهي منتصف تشرين الأول. ثم حركة أخرى يتوقف فيها فيضان النيل، وتعود مياهه لتبين في الأعماق طوال باقي السنة. بذا يمكنني القول إن نموذج توقيت العصر الحجري القديم الأعلى ربما بني على نموذج نهر النيل.
وهذه مقدمة القصة التي عرضها كتاب المفكر والشاعر الفلسطيني زكريا محمد (سنة الحية، روزنامات العصور الحجرية).