الصفحة 1
في ذلك اليوم عاد باكرا من الجريدة صعد الدرجات متثاقلا حتى وصل باب الشقة. أدار المفتاح و دخل ليجدها فارغة لا أحد فيها...
منذ عام ونصف و هو يعيش وحيدا لا أحد ينتظره.
لا يوجد صوت يختلط مع صوت الصمت الرهيب الذي يملئ بيته،غير صوت أنفاسه، و الأشياء التي يلمسها، أو صوت أقدامه، أو خرير الماء من الحنفية و طنين الساعة و زر الموقد و الكبريت يشتعل. ليصنع الشاي فلقد تعود عليه.
و تعود أيضا على سماع الموسيقى، و اللعب بفأرة حاسوبه بشاشته الصغيرة.
وضع الشاي بجانبه. و أخذ قلمه، و بدأ يصب أفكاره على الأوراق البيضاء سطرا وراء سطر حتى أقبل الليل و كالعادة لم يشعر بالوقت.
أشرقت شمس الصباح و لم يبرح مكانه، ترك القلم و غفي قليلا، ولكن رنين المنبه لو يتركه يجاوز السابعة.
و بعد أن اغتسل ارتدى ملابسه و نزل يستقبل ضجيج الشارع.
في حارته يبدأ اليوم قبل الفجر، يشعر به و هو مازال ينزل السلالم. أبواب الشقق مفتوحة و النسوة يعملن على تنظيف بيوتهن منذ الصباح، و أصوات الصغار عالية و هم يتجهزون للذهاب إلى المدارس.
و في الشارع صوت القرآن الكريم بنغمات بديعة يمر و مصبحا و هو في طريقها إلى الشارع الرئيسي.
كان سيقطع الطريق للذهاب لمحطة المترو الخفيف، عندما توقفت أمامه سيارة تاكسي نزل منها ثلاث بنات، و كان السائق امرأة.
و دون تفكير فتح الباب و ركب. و لم يشعر أنه في السيارة إلا عندما سألته عن وجهته.
أجابها و هو يحدق فيها و يسأل نفسه ألف سؤال.
و كأنها عرفت ما يخطر في باله فتكلمت دون سابق إنذار:
_مهنتي صعبة كثيرا، أنا امرأة و سيارة الأجرة ..... يركبها كل الناس و كل له وجهته....
صمتت وقتا طويل. و كأنها تراجع ما سوف تقول، و هو كان ينصت بانتباه و استغراب، و لكنه لم يرد مقاطعتها. فعادت هي للكلام فجأة.
_أجل صعبة و لكن الظروف أصعب ... تصور أرملة لها ثلاث أولاد لا يترك لها زوجها سوى هذا التاكسي. و عليها أن توفر قوت أطفالها و تؤمن لهم مصاريف دراستهم و هي لا تتقن أي عمل و ليس لها من معيل....
واصلت حديثها و كانت تحكي قصة حياتها بحزن عميق يلون صوتها المبحوح، و كان كمال يستمع لها باهتمام كبير دون أي تعليق.
و فجأة أوقفت السيارة، و التفتت إليه:
_أسعدني أنك استمعت إلي آمل أن أراك مجددا في أسعد الأوقات ...
حينها تفطن أنه وصل الجريدة. فشكرها ونزل بعد أن دفع الحساب، و هو مستغرب كيف لم ينتبه أنه وصل و هي التي كانت تسرد حكايتها المؤلمة لم تفقد التركيز.