السّفراء والسّفارة عند العرب قبل الإسلام بقلم / محمَد علي دقةالسفارة لغة: السعي في الصلح بين القوم، والسفير: الرسول، والمصلح ، وسفر بينهم سفارة وسَفارة: أصلح ، وفي حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال لعثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الناس استسفروني بينك وبينهم ، فالسفير من يسعى في الصلح بين الأقوام، ومن يسافر في حوائج قومه، وكل رسول سفير.
ولعل لطبيعة المرحلة الرعوية التي عاشها عرب الجاهلية فوق أرض بائسة أثراً هاماً في نشوء السفارة وعلو مقامها، حيث اتسمت حياتهم بالفوضى والاضطراب والاحتراب، ولا سيما في القرن الذي سبق ظهور الإسلام، ولم يكن للعرب خيار في التغور والاقتتال، فقد تضافرت عوامل طبيعية ومعاشية فضلاً عن غياب الشعور القومي الجامع، وسيادة العصبية القبلية، لتدفع بالحرب على أرض العرب، وتدفع بالعرب على شفا هوة، فكثرت الأيام والوقائع ، واستحكم الضعف في القبائل، وتشتت الألفة، وتباينت الأهواء.
وقد اقتضت تلك الحياة الصاخبة أن ينشط السفراء، وأن تتنوع مجالات سعيهم، فكثرت السفارات، وكان للسفراء أثر هام في حياة الجزيرة العربية.
فضل السفارة والسفير:
تتطلب السفارة دراية وحنكة وحكمة، لعلو المطلب وخطورة النتائج، ولقد عرفت العرب فضلها وعلو مقامها لما تحقق من الغايات التي تعجز عن تحقيقها أزجة الرماح , وتصلح في كثير من الأحايين ما أفسدته الحروب والغارات، يقول جرير:
ستعلم ما يغني حكيم ومنقع .... إذا الحرب لم يرجع سفيرها(1)
وقد وجب على السفير أن يكون حليماً حكيماً، منكراً داهياً، خراجاً ولاّجاً، صحيح الفطرة، بصيراً بمخارج الكلام وأجوبته، يقول عمر بن أبي ربيعة:
فبعثنا طبَّة محتالة.... ................ تمزج الجد مراراً باللعب
ترفع الصوت إذا لانت لها...... وتراخى عند سورات الغضب(2)
تلك سفيرة هوى، فما حال سفير قوم، يرعى مصالح قومه، أو يدفع شر خصمه، أو يقف بين يدي ملك جبار، تتنازعه الرغبة والرهبة، فيوطد لقومه في حيطة وحذر, إنه لا بد أن يجمع الفطانة والفصاحة، فيتخير الكلام، ويستعذب الألفاظ ، حتى يطفئ جمرة الغيظ، ويسل دفائن الحقد.
ولقد كان سفير العرب هو المقدم في عشيرته، وعميدها الذي من قوته تنزع، أو حكيمها الذي عن رأيه تصدر، أو شاعرها الذي عن لسانها يعرب ، ولبعد همة السفراء وعلو قدرهم فخرت العرب بهم، يقول المثقب العبدي:
أبي أصلح الحيين بكراً وتغلباً .... وقد أرعشت بكر وخفت حلومها
وقام بصلح بين عوف وعامر....... وخطة فصل ما يعاب زعيمها(3)
معاملة السفراء:
ليتمكن السفراء من إطفاء النائرة، وإحلال السلم، كان لا بد من حصانة يتمتعون بها، وحماية متعارف عليها بين القبائل، تمكنهم من الوفود آمنين مطمئنين ؛ لذا فقد أكرمت العرب السفراء , وأحسنت معاملتهم، ووفرت لهم الحماية والأمن، وقد قدم في يوم ذي قار النعمان بن زرعة التغلبي على بكر رسولاً من كسرى، يخيرهم خلالاً ثلاثاً: أن يسلموا حلقة النعمان، أو يرتدوا إلى الصحراء، أو يأذنوا بحرب ، وكان لهم في الأولى الدنية، وفي الثانية المنية عطشاً، فلم يكن من هانئ بن قبيصة سيد بكر إلا أن قال له: لولا أنك رسول ما أبت إلى قومك سالماً(4).
وبعث مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب إلى النبيصلى الله عليه وسلم رسولين يحملان كتاباً، يقول فيه: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. سلام عليك، فإني قد أشركت في الأمر معك، وأن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون".
فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب، قال للرسولين: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال مسيلمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما والله لولا أن الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما"(5).
أغراض السفارة:
1-تعزيز القبيلة:
سعى السفراء في عزة قبائلهم ومنعتها، فساروا يوثقون المواثيق، ويشدون الأحلاف، ولا سيما عندما تشتد عليهم الخطوب، وتغلب عليهم الخصوم ، ووقف الشعراء السفراء بين يدي الملوك في الحكومات، يبينون ما يراه قومهم حقاً، ويدفعون ما يرونه جوراً من خصمهم وتعدياً، ولقد كان الحارث بن حلِّزة الشاعر سفير بكر إلى ابن هند الملك اللخمي، في خصومتها مع تغلب للدفاع عن حياة مائة رهينة من بكر، كانت في يد عمرو بن هند، فأنشد ابن هند معلقته:
آذنتنا بينها أسماء ... رب ثاو يملُّ منه الثواء(6)
رفع فيها الحارث صوت العقل، ودفع عن قومه الشر والتجني، فحكم عمرو بن هند أنه لا يلزم بكر بن وائل ما حدث لرهائن تغلب، ودفع رهائن بكر إلى الحارث.
ولم يقصر السفراء سعيهم خارج قبائلهم أو بطون عشائرهم، دعاة صلح، أو سعاة حلف، بل سعوا في قومهم الأدنيين، يقيمون ميلهم، ويزجرونهم عن الغدر والظلم، ويدعونهم إلى الوفاء بالعهد والعقد، ويسعون في رشدهم عندما تضل حلومهم، وتطيش سهامهم، ولقد عرف نابغة بني ذبيان بالحزم ورجاحة العقل وصدق النظر، مما جعل منه ناصحاً مرشداً لقبيلته، فضلاً عن كونه سفيرها وشفيعها عند الغساسنة، وقد تمكن بحسن سياسته ومهارته من انتزاع قومه من معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وجنبهم الغدر بالحلفاء والوقوع في مصائد الأعداء، وقد قتلت بنو عبس نضلة الأسدي، فقتلت بنو أسد رجلين من عبس فأراد عُيينة بن حصن سيد ذبيان أن يخرج حلفاءه من بني أسد من ذبيان، ويعاون عبساً عليهم، واندفع في هذا الأمر بحماسة وطيش شأن فتيان الحرب، فشق ذلك على النابغة، وأدرك بنفاذ بصيرته وتجربته أن هذا الأمر سيجلب الشر والضر على ذبيان، وأنه ليس من حسن السياسة أن يقطع قومه حلفهم، بعد كل البلاء الذي أبلته أسد في الدفاع عنهم فخاطب عُيينة، وقال:
ألكني يا عيُين إليك قولاً ... سأبديه إليك، إليك عني
أتخذل ناصري، وتعز عبساً ... أيربوع بن غيظ للمعن
إذا حاولت في أسد فجوراً... فإني لست منك ولست مني
ولو أني أطيعك في أمور.... عضضت أناملي وقرعت سني(7
وكان المتلمس الضبعي رسول الثورة في قومه، فقد أفنى حياته وهو يسعى في ثورة بكر على الطغيان اللخمي، ويدعو بحرقة ومرارة للتمرد على الضيم:
يا آل بكرٍ: ألا لله أُمُّكم... ............... طال الثواء وثوب العجز ملبوس
أغنيت شأني، فأغنوا اليوم شأنكم.... واستحمقوا في مرأس الحرب أو كيسوا(8)
وفي قصيدة أخرى أرسلها الشاعر المنفي في الشام إلى قومه في العراق، يقول:
إن الهوان حمار القوم يعرفه.......... والحر ينكره والرسلة الأجد
ولن يقيم على خسف يسام به......... إلا الأذلان: عير الأهل والوتد(9)
2-الفداء وفك الأسراء:
وركبت سفراء القبائل ووجوهها على سادة القبائل وملوك المناذرة والغساسنة يسعون في فداء أساراهم وسباياهم: ولأن الخصاصة والحاجة قد دفعت القبائل إلى التغاور , فقد كان المال وسيلة لافتداء الأسرى، وقد وفد لقيط بن زرارة التميمي على بني عامر في فداء أخيه معبد، فأغلوا فداءه، فتركه في قيد الأسر ورجع إلى قومه، فقال شريح بن الأحوص العامري أبياتاً في لقيط، منها:
لقيط وأنت امرؤ ماجد......... ولكن حلمك لا يهتدي
رفعت برجليك فوق الفرا...... ش تهدي القصائد في معبد
وأسلمته عند جد القتال..... وتبخل بالمال أن تقتدي(10)
وقد عرفت العرب بفصاحتها وسحر بيانها؛ لذا فقد فعل الحديث الساحر والكلم الطيب في نفوسهم فعل السحر، وقد حدَّث متمم بن نويرة عمر بن الخطاب، فقال: "أسرتني بنو تغلب في الجاهلية، فبلغ ذلك أخي مالكاً، فجاء ليفديني، فلما رآه القوم، أعجبهم جماله، وحدثهم فأعجبهم حديثه فأطلقوني له بغير فداء"(11).
ولأن العربي أحب المديح وخشي الهجاء فقد اتخذ الشعراء السفراء من المديح طريقاً لفك الأسراء من ذل الأسر وقيوده , وإطلاق السبايا من عار السبي وشكوله، وقد سفر المثقب العبدي على الملك اللخمي عمرو بن هند في أسراء قومه وسبيهم فقال:
فأنعم أبيت اللعن أنك أصبحت ...... لديك لكيز كهلها ووليدها
وأطلقهم تمشي النساء خلالهم............. . مفككة وسط الرحال قيودها(12)
وسفر علقمة بن عبدة التميمي الشاعر على الحارث الأعرج الغساني في أخيه شأس وتسعين أسيراً من تميم، وقعوا في الأسر يوم حليمة، فأنشد الحارث بائيته السائرة:
طحا بك قلب في الحسان طروب............. بُعيد الشباب عصر حان مشيب
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ........... .فحق لشأس من نداك ذنوب
فلا تحرمني نائلاً عن جنابة ............ ..فإن امرؤ وسط القباب غريب
فأطلق له الحارث شأساً وأسرى تميم، وكساهم، وحباهم، وزودهم زاداً كثيراً(13) ولنابغة بني ذبيان وحاتم طيء وأعشى بكر وغيرهم سفارات كثيرة.
وسعت سادة الأقوام في أسرى جيرانها ومالهم، وقد ركب دريد بن الصمة إلى يزيد بن عبد المدان في مال جاره:
بني الديان ردوا مال جاري......... وأسرى في كبولهم الثقال
وردوا السبي إن شئتم بمنٍ....... وإن شئتم مفاداة بمال
فأولوني بني الديان خيراً.......... .. أقر لكم به أخرى الليالي
فأطلق له يزيد الأسرى والسبايا ورد المال، وأقر دريد له بذلك الخير الذي أولاه إياه في قصيدة حمد وعرفان:
مدحت يزيد بن عبد المدان......... فأكرم به من فتى ممتدح
إذا المدح زان فتى معشرٍ.............. . فإن يزيد يزين المدح
حللت به دون أصحابه........... . ..فأورى زنادي لما قدح(14)
3-السعي في السلم:
وقد كره العرب اللجاج في الحروب، وسعى السفراء من حلماء القبائل وحكمائهم لإطفاء نار الفتن، ودفع الشر، وتلافي القرحة وإقرار الأمن، وارتفعت أصوات العقلاء تدفع الحرب المبيرة عن الأهل والعشيرة، ورأوا أن الظلم مطية الشر وسبيل التهلكة، فتنادوا إلى رفع الظلم، وإقرار الحق:
يا قومنا لا تظلمونا حقنا............ والظلم أنكد غبُّه مشؤوم(15)
وسعى الحلماء السفراء ما وسعهم السعي لإحلال الأمن والطمأنينة بين القبائل , فتحدثوا عن الحرب ووصفوا بشاعتها، ودعوا إلى اجتنابها، ووصفوا مر ثمارها، وشؤم نتاجها:
ولا تجنيا حربا تجر عليكما............... عواقبها يوماً من الشر أشأما
فإن جناة الحرب للحين عرضة............ تفوقهم منها الذعاف المقشما
حذار فلا تستنبئوها فإنها............ تغادر ذا الأنف الأشم مكشما(16)
وكان لحلمائهم وعقلائهم عظة وعبرة من تفاني القبائل في أيامها العظام، حيث استمر القتل وكثرت الدماء، فذكَّروا في سفاراتهم بما كان من أمر تلك القبائل لمَّا تسافهت أحلامها ودعوا إلى التعقل والحلم، وقد دعا دريد ابن الصمة في سفارته بين حيَّين من سُليم أن يتعظا بحروب ربيعة وغطفان، واليحابر:
سليم بن منصور ألما تخبروا............. بما كان من حربي كليب وداحس
وما كان من حرب اليحابر من دم........... . مباح وجدع مؤلم للمعاطس
تسافهت الأحلام فيها جهالة............. وأضرم فيها كل رطب ويابس
فكفوا خفافاً عن سفاهة رأيه.......... وصاحبه العباس قبل الدهارس(17)
وكان للعرب سفارات على الفرس والروم والأحباش لا تتسع مقالتنا هذه للحديث عنها.
خصائص السفارة:
حوت السفارة الجاهلية مادة طريفة، ضمت باقة من عيون أشعار العرب، وجيد كلامها، فادخرت سحر بيانها، وغرائب فطنتها، وخلاصة حكمتها، وأبرزت دهاءها، وكياستها وحسن تخلصها، ولطف اعتذارها ، ومن جيد كلامهم وسحر بيانهم خطبة قبيصة بن نعيم، وكان سفير بني أسد في وفد كبير إلى امرئ القيس الكندي الشاعر، بعد أن قتلت بنو أسد ملكها حجراً الكندي، وقد قال فيها لامرئ القيس: "إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرف الدهر وما تحدثه أيامه، وتنتقل به أحواله، بحيث لا تحتاج إلى تبصير واعظ ولا تذكرة مجرب.. كان لحجر التاج والعمة فوق الجبين الكريم، وإخاء الحمد، وطيب الشيم ، لو كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك، ولفديناه منه، ولكن مضى به سبيل، لا يرجع أولاه على أخراه، ولا يلحق أقصاه أدناه.."(18).
ومن ذلك حديث مرثد الخير بن ينكف في سعيه في الصلح بين سبيع وميثم حين تنازعا الشرف، وخيف أن يقع بين حييهما الشر، فقد قال: "إن التخبط وامتطاء الهجاج واستحقاب اللجاج سيقفكما على شفا هوة في توردها بوار الأصيلة، وانقطاع الوسيلة ، فتلافيا أمرا كما قبل انتكاث العهد، وانحلال العقد، وتشتت الألفة، وتباين السهمة.. فإنه إذا سفكت الدماء استحكمت الشحناء، وإذا استحكمت الشحناء تقضبت عرى الإبقاء وشمل البلاء.. ولا تؤرثوا نيران الأحقاد ففيهاً المتلفة المستأصلة، وعفوا بالحلم أبلاد الكلم.."(19).