رسائل من بعض الأبناء إلى بعض الآباء
3 مشترك
منتـديات مكتـــوب الاستراتيجية للبحث العلمي MAKTOOB :: الابحــاث الأدبيــة والإداريـــة :: رسـائل ماجستـيــر ودكتـــوراة و بـحـوث جـامعيـة الابحــاث الأدبيــة والإداريـــة :: ابحاث التعليم والمعلمين والمناهج
صفحة 1 من اصل 1
رسائل من بعض الأبناء إلى بعض الآباء
يا أبتي
دعاء
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}
[ آل عمران-38]
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء}
[ إبرا هيم- 40]
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ }
[الأنبياء- 89]
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}
[الفرقان- 74]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على خير الأنام: سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وذريته وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
هذه رسائل من بعض الأبناء إلى بعض الآباء..
يبثون فيها شكواهم، ويعبرون على صفحاتها عن مشاكلهم، ويسطرون من خلال حروفها عن أمانيهم وآمالهم وآلامهم. يرفعونها لكم معاشر الآباء مع الحب كله. والشوق كله.. والعرفان كله.
فيقولون لكم: جزاكم الله عنا نحن الأبناء كل خير، ورزقنا بزكم وطاعتكم في دنياكم، ومتعنا بكم ومتعكم بنا أبناء مخلصين وبررة محسنين، رحماء بكم مخلصين لكم قائمين بحقوقكم، ورزقنا الدعاء المستجاب لكم بعد موتكم وانصرام أمركم، ونشكر لكم كل ما قدمتم لنا، ولكم المنة بعد الله علينا، فطالما حرمتم أنفسكم من أجلنا، ولطالما أشقيتم أرواحكم من أجل سعادتنا، فكم جعتم لنشبع وظمئتم لنرتوي، وتعزيتم لنكتسي، وسهرتم لننام.
فأبشروا بالأجر من الله تعالى، فما قدمتموه وما عملتموه وما بذلتموه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها {لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (52) سورة طه ولكن رحمتكم بنا، وعطفكم علينا، وإخلاصكم لنا شجعنا أن نقدم لكم بعض العتاب عن أخطاء وقعت في تربيتنا، منشؤها العاطفة الغالبة، أو الثقة المفرطة، أو الصوارف الملهية، أو الشغل العارض وإنما كل ذلك بدافع الحب والرحمة، وبوازع العطف والشفقة وكلنا ذوو خطأ.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط (للحريري صاحب المقامات)
المنى كل المنى أن تتقبلوها منا بقلوب واعية، وآذان صاغية فتكسبنا أكفاً داعية ونفوسا راضية.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق
أين أنت.. يا أبتاه ؟
يا أبتي:
استمع إلى شكواي أبثها إليك.
ومشكلتي أضعها بين يديك..
فمشكلتي.. يا أبتي.. أنك مشكلتي..
فأين أنت.. يا أبتاه؟!
بيتك الذي بنيته.. يناديك..
عشك الذي رعيته.. يناجيك..
ابنك الذي نسيته.. يبحث عنك.. ليدنو منك..
أعمالك.. شركاتك.. عقاراتك.. رفاقك..
إنهم جميعاً ألد أعدائي.. لأنهم أخذوك مني وأبعدوك عني، بالرغم من علمي أنك لا تعمل بها ولا فيها إلا من أجلي وإخوتي..
ولكن يا أبتي "إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولولدك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه " "وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ".
فأنا أريدك يا أبتي..
أتمنى أن أضع رأسي على صدرك وأبثك همي وحزني.. أحلم أن أدس وجهي بين أصابعك، وأعبر عن حبي لك، وشوقي إليك ولهفتي عليك..
أريدك أن تداعبني، تعلمني، تفهمني، تؤدبني..
أرغب في أن أحس أنك معي ولي وبي..
فأين.. أين أنت يا أبتاه..؟!!
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له أما تخلت أو أباً مشغولاً
مطالب الروح
يا أبتي:
دعني أقدم لك الشكر كله على ما بذلته من أجلي وفي سبيل راحتي وسعادتي..
فأنت قد جلبت لي أفضل المطايب والمشارب والمراكب..
وأسكنتني أجمل وأهنأ المساكن..
وبذلت لي أسباب الراحة والرفاهية على قدر جهدك وطاقتك..
ولكنك- يا أبتي- قد قصرت في أهم الجوانب وأعظم المطالب..
إنها مطالب الروح والقلب والإيمان، وكل هذه الأمور غذاؤها الطاعة وزادها التقوى ووقودها العبادة، وبلسمها العمل الصالح.
فهل قمت بحقوقها كما قمت بحقوق الجسد؟!
يا خادم الجسم كم تسعى لراحته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
فمتى أخذت بيدي يوماً وذهبت بى إلى محاضرة قيمة يزداد فيها علمي وعملي..؟!
ومتى دخلت علي يوماً بشريط إسلامي مفيد يعمر به وقتي وتكثر به حسناتي؟!
ومتى أهديتني كتاباً دينياً يأخذ بيدي وينير لي دربي في هذا الزمان الذي كثرت ظلماته وادلهمت شبهاته وشهواته؟! ومتى ألصقت قدمي بقدمك وكتفي بكتفك لأداء الصلاة امتثالاً لأمر الله {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } (132) سورة طه {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (36) سورة النور
والتزاماً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" ؟!
ومتى حفظتني القرآن؟!
ومتى علمتني السنة؟!
ومتى فقهتني في الدين؟!
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجى ولكن يعوده التدين أقربوه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " .
تهيئة جو المعصية
يا أبتي:
هل رأيت يوماً قارباً صغيراً تصارعه أمواج البحر في عتو واستكبار؟!
أو أبصرت زهرة ندية تقاوم- على ضعفها- سطوة إعصار؟!
أو لمحت طائراً ضعيفاً مكسور الجناح تطارده سباع وضباع في نهم وسعار؟!
إني- يا أبتي- أضعف من هؤلاء جميعاً في جو الفتن والشهوات والشبهات الذي أعيشه ليلاً ونهاراً..
فالعين لا ترى إلا ما يسحرها..
والأذن لا تسمع إلا ما يطربها..
والجوارح لا تعيش إلا ما يغريها..
والقلب لا يشعر إلا بما يفتنه..
والعقل لا يدرك إلا ما يضله..
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد
لقد هيأت لي- يا أبتي- جو المعصية وأحطتني بسياج الخطيئة، فتنفست رائحة الشهوة في الشهيق فأخرجت ذلك معصية لله تعالى مع الزفير..
إن قنوات التلقي عندي لا تلتقط إلا ما يفتن فأصبح البث ممزوجاً بالخطايا والرزايا والبلايا..
ومن يكن الغراب له دليل يمر به على جيف الكلاب
ألقيتني- يا أبتي- في بحر الشهوات ولم تلبسني طوق نجاة ثم تريدني بعد ذلك أن أكون ملكاً معصوماً!!! هيهات.. هيهات..
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء
يا أبتي: إني لا أريد أن أكون خصيماً لك يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [ سورة الشعراء الآيتان:88-89] فأمسك بتلابيبك يوم القيامة يوم الحسرة والندامة فأقول:
يا رب خذ لي مظلمتي من والدي..
يا رب إنه رآني على المعصية فلم ينهني..
يا رب إنه أبصرني محجماً عن المعروف فلم يأمرني..
يا رب إنه بذل لي أسباب المعصية، وزين في عيني الخيطئة وألقاني في نار الشهوات، فأحرقت إيماني والتهمت حسناتي وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يعين قومه على غير الحق، مثل بعير تردى وهو يجر بذنبه " .
يا أبتي: إني أمانة في عنقك.. وأنت مسؤول عني أمام ربي وربك.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) .
فاشغلني بطاعة الله حتى لا أشغل نفسي بمعصيته.. استعملني في مرضاة الله حتى لا أقع فيما يغضبه..
سخرني في قربات الله كي لا أجترح ما يسخطه..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) سورة التحريم .يا أبتي: برني صغيراً حتى أبرك كبيراً.
ولا تعقني صغيراً كي لا أعقك كبيراً.
فكما تدين تدان، وما تزرعه اليوم تحصده غداً ومن أراد النجاة أخذ بأسبابها..
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
مخالفة الفعل للقول
يا أبتي: إنني أعيش في تخبط عجيب وصراع غريب.. وذلك لأني أراك تأمرني بأمور أنت لا تفعلها.. وتنهاني عن أمور أنت ترتكبها..؟!
فهل تريدني أن أقتدي بأقوالك أو بأفعالك التي بينها بعد المشرقين؟!
فأنت تأمرني بالصدق وتحثني عليه، وترغبنى فيه، وتحذرني من الكذب وتنهاني عنه..
وأراك في مواضع كثيرة تمارس ما نهيتني عنه وحذرتني منه..!! فتكذب تارة بل وتأمرني بالكذب تارة أخرى..!!
فهل تذكر- يا أبتي- عندما طرق علينا طارق يريدك ويبغيك فأمرتني أن أقول له: إن والدي غير موجود..!! فألزمتني أن أقول بلساني ما تكذبه عيني..
وأتحدث بفمي ما يأباه قلبي.. ويغضب ربي..
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وتأمرني- يا أبتي- بأن آكل الحلال، وأكون أبعد ما أكون عن الحرام، وتحدثني بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "كل جسد نبت من السحت فالنار أولى به " .
وإذا بك ترسلني كي أشتري لك علبة دخان أو أوقد لك مئذنة الشيطان .
إذا كان رب البيت بالدف مولعاً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
لقد أصبحت المثل والقيم التي تعلمني إياها في نظري كلاماً نظرياً لا يمت للواقع بصلة، فقد ألفيتني أتعلم منك كلاماً في الصباح وأرى ما يخالفه أفعالاً في المساء..!!
فبماذا أقتدي؟!
أبقولك أم بفعلك؟!
بحديثك أم سلوكك؟!
بكلامك أم بصفاتك؟!
اسمع لي- يا أبتي- أن أهمس في أذنك قول ربي وربك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} سورة الصف
يا أيها الرجل المعقم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهنالك يقبل ما وعظت ويقتدى بالعلم منك وينفع التعليم
يا أبتي: لا ألفينك يوم القيامة ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان! ما شأنك؟
ألست كنت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟!
فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه " .
أعيذك بالله- أيها الحبيب- أن تكون منهم، وأن يكون حالك كحالهم..
التدليل الزائد
يا أبتي: إني أشكو إليك من نفسي التي ما قدرت على مقارعة الخطوب ولا مواجهة الحياة. فهي مطيتي في حال الرخاء، لكنها عدوتي في حال الشدة.
وأجدني أسير بدونك- يا أبتي- في مضمار الدنيا كمقاتل يحارب في ساح المعركة بدون سلاح، أو كهشيم تذروه الرياح، أو كقارب صغير يعاني من لطم الأمواج وفقد الملاح.
وأعود بالذاكرة للوراء قليلاً وأفتش في صفحات الماضي، فأجد السبب في هذا الضعف الذي أعيشه وهذا الخور الذي أعاني منه هو: تدليلك الزائد لي .
فقد عودتني على أن تكون طلباتي مجابة ورغباتي محققة، فالقول الجميل قولي، والفعل الحسن فعلي، والزلل مني في عينك حسنة، والخطأ مني في نظرك صواب.
تعودت أن أكون مخدوماً لا خادماً، وآخذاً لا معطياً، وآمراً وناهياً، وحين فقدتك- يا أبتي- فقدت كل شيء.. وأصبحت بعدك لا شيء.!!
عشت على كلمات المدح والثناء، فمن لي بتحمل الكلام النقيض؟!
ترعرعت على احتياجاتي الملباة، فكيف بي إذا واجهت الحرمان البغيض؟!
نشأت في السراء، فكيف أطيق صبراً على الضراء؟! تعودت على كلمات الحب والإطراء، فكيف أغفل الطرف عن كلمات الكره والبغضاء؟!
ألفت ركوب قوارب السعادة، فكيف أركب ملزماً قوارب الشقاء؟!
تربيت على اليسر، فمن لي بقلب يتحمل العسر؟!
تعودت أن يطرق سمعي نسيم (نعم)، فماذا أقول إذ تفجر في مسمعي بركان (لا)؟!
حسن قول (نعم) من بعد (لا) وقبيح قول (لا) بعد (نعم)
إن (لا) بعد (نعم) فاحشة فبـ(لا) فابدأ إذا خفت الندم
فيا ليتك إذ أعطيتني حرمتني، وإذ رغبتني رقبتني..
فعشت متزن الشخصية سوي النمو، ما بين قسوة مغقفة بالرحمة وغلظة ممزوجة بحنان.
فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً فليقس أحياناً على من يرحم
رأس كل خطيئة
يا أبتي: سمعت أن شاباً صغيراً مر بجواره شيخ كبير، فوجده يبكي. فقال الشيخ للشاب: ما لك- يا بني- رحمك الله تبكي؟!
فقال الشاب: رأيت أمي تشعل التنور بصغير الحطب، فخشيت أن يشعل الله بي وبأمثالي من الصغار نار جهنم يوم القيامة، فذلك الذي أبكاني..!!
يا أبتي: لماذا لا أحس بما يحس به هذا الشاب؟! ولماذا لا أعيش كما يعش؟!
لأنك يا أبتي- وبكل صراحة- ما ربيتني كما تربى ولا علمتني كما تعلم..
واسمح لي- يا أبتي- أن أقسو في العبارة قليلاً، يشجعني على ذلك حلمك بي وعطفك علي واستماعك الجميل لي..
إنك ربيتني لأكون عبداً للدنيا فعليها أعيش، ومن أجلها ألهث وفي سبيلها أغالب، فهي محط آمالي ومحور اهتمامي ومنتهى أحلامي، ولم تربني لأكون عبداً لله كما يحب الله، أستعد للقائه وأومن بقضائه، وألتزم بأمره، وأقف مذعناً عند نهيه.. وهل خلقت الدنيا إلا من أجل الآخرة؟!
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي ديناً
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء له قرينا
وسأبرهن لك على ذلك بمثال، وإن كانت الأمثلة على ذلك كثيرة ووفيرة..
فأنت تذكر- أيها الحبيب- عندما تأخرت عن المدرسة يوماً بدون عذر، ولم أصل لله تعالى ركعة واحدة في ذلك اليوم، وأنت على علم بهذا واطلاع عليه.
أسائلك بالله- يا أبتي- علام وقع لومك وعتابك؟ وعلام كان عقابك؟
إنك- يا أبتي- عاقبتني على تأخري عن المدرسة ولكنك لم تعاقبني ولم تلمني- مجرد اللوم- على عدم صلاتي، ووقوفي موقف العز بين يدي خالقي ومولاي..
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فهل تريدني أن أهتم بالدنيا أكثر من الدين؟!
وهل ترغب أن أخاف منك أكثر من خوفي من الله؟!
وهل تبتغي أن أعمر دنياي وأخرب آخرتي، فأنتقل من العمار إلى الخراب عندما ينتهي زمن المهلة ويأتي زمن النقلة؟!
لماذا حذرتني- يا أبتي- من سخطك وعقابك؟ ولم تحذرني وتنذرني من سخط الله وعقابه وأليم عذابه؟!
أكانت الدنيا أحب إليك من الآخرة؟!
أم كان الحطام الفاني العاجل خيراً عندك وأحب إلى نفسك من النعيم الباقي الآجل؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " .
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة) .
اعدلوا هو أقرب للتقوى
يا أبتي: دعني أبثك حزني وألمي وكمدي هذه المرة فهذا حديث الصراحة في هذا اليوم..
حديث الروح للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عناء
يا أبتي: على العدل قامت السموات والأرض، وبالقسط أمر الله وعلى المساواة قام ميزان الحق والباطل {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (90) سورة النحل.
فلماذا- يا أبتي- لا تعدل بيني وبين إخوتي؟!
إنك تعطيهم وتمنعني..
ترضيهم وتسخطني..
تدنيهم وتبعدني..
تمدحهم وتهجوني..
تشركني في أخطائهم ولا تشركني في حسناتهم.. فكان حالي وحالهم:
غيري جنى وأنا المعذب فيكم فكأنني سبابة المتندم
أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم ". وقوله صلى الله عليه وسلم: "اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف ". عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأرجعه ". وفي رواية: فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم ". فرجع أبي فرد تلك الصدقة. وفي رواية: "أشهد على هذا غيري؟ ثم قال: أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟! قال: بلى، قال: فلا إذاً". وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بشر، ألك ولد سوى هذا؟ فقال: نعم، قال: أكلهم وهبت له مثل هذا؟ قال: لا، قال: فلا تشهدني إذاً فإني لا أشهد على جور".
وفي رواية: "لا تشهدني على جور"
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
فلا تترك الشيطان- يا أبتي- يزرع حقول الحقد والحسد والبغض بيني وبين إخوتي فإن: ((الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) وقد قال الأسوة القدوة صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه فكه بزه، أو أوبقه إثمه.. ".
القسوة والغلظة
يا أبتي: يا من تحرص كل الحرص على تربيتي والعناية بي، وعدم صدور الخطأ مني والزلل عني.
ألم تعلم- يا أبتي- أنني إنسان معرض للخطأ وكلنا ذوو خطأ.
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه
فلماذا- يا أبتي- تكون العصى سبيل المفاهمة، ويكون الضرب طريق العقاب، وتكون الشدة سلم التعلم؟!
فلا سبيل للعتاب، مع أن صائح الحكمة يقول:
تأن ولا تعجل بلومك صاحباً لعل له عذر وأنت تلوم
ولا فرصة لإبداء الرأي، مع أن صائح الحكمة يقول:
لا تحقر الرأي يأتيك الحقير به فالنحل وهو ذباب طائر العسل
ولا أمل في قبول الأعذار، مع أن صائح الحكمة يقول:
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً إن بر عندك فيما قال أو فجراً
لقد أطاعك من يرضيك ظاهره وقد أجلك من يعصيك مستتراً
فلماذا- يا أبتي- تسلك الطريق من آخره، ولا تعرف من العلاج إلا الكي؟!
لماذا تنقطع السبل.. كل السبل إلا سبيل القوة والقسوة والغلظة {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (159) سورة آل عمران أين الرفق؟! الذي "لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه " "وما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم ".
أين كظم الغيظ؟! و"من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما يشاء" .
يا أبتي: كن سهلاً في غير تفريط، وقوياً من غير إفراط فإنه "من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار".
وليست الأمراض جميعاً- يا أبتي- تعالج بعلاج واحد، والعلاج خطوة خطوة. فلماذا نبدأ من الخطوة الأخيرة؟! النظرة منك يا أبتي تعاقبني. الهجر منك يا أبتي يعذبني. العتاب منك يا أبتي يقومني..
فكل داء له دواء، وكل خطأ له عقوبة..
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
وليكن لك- يا أبتي- في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فإنه رحمة الله تعالى للعالمين و"كان أرحم الناس بالعيال والصبيان " وكان يقول: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويجل كبيرنا" .
وهو الذي يقول: "علموا، ويسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت " .
سقط المتاع
يا أبتي إن بين جوانحي قلباً يخفق، وتحت مفرق رأسي عقل يفكر..
فلماذا تريدني- يا أبتي- مسلوب الإرادة، منهوب الرغبة، ممسوخ الميول؟!
لماذا تسلبني أهلية التفكير والتدبير..؟!
إنك- يا أبتي- جعلتني في البيت كما مهملاً، ومن سقط المتاع.
فلا قيمة لي ولا اعتبار..
فلا تسألني عن رأي..
ولا تشاورني في أمر..
ولا تأخذ برأي في قضية..
فقولي محكوم عليه بالخطأ ولو لم أقله..
وفكرتي محكوم عليها بالفشل من قبل أن تعمل.. وأصبحت موجوداً بغير وجود..!!
وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع
والله تعالى قد أمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران مع أن الأمر أمر الله والقضاء قضاؤه فلا معقب لحكمه، ولا راد لأمره.
وما هو رأي الصحابة رضي الله عنهم- وهم عرضة للخطأ- مع رأي من لا ينطق عن الهوى ولا يضل ولا يغوى ولكن {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب
شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تبصر منها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة
فيا أبتي: من ينمي مداركي- بعد الله- سواك؟!
ومن يعلمني كيف اختار؟ ومتى أصنع القرار إلاك؟!
ومن يفتق ذهني؟ ويحرك عقلي؟ ومن يجعلني أعتمد على نفسي وأثق بها- بعد الله- إلا أنت؟!
ولا تلمزوا أنفسكم
يا أبتي: قرأت في كتاب الله أن الله قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات
فلماذا أسمع منك تلك العبارات الشائنة، والألفاظ القبيحة، والأوصاف الجارحة التي تشتمني بها؟!
لماذا تسخر من هفواتي؟ وتهزأ من سقطاتي؟
لماذا تلمزني بالألقاب؟ وتسخر مني وتزدريني لأتفه الأسباب؟
فإذا أخذت قلماً من جيبك بدون علمك قلت: يا سارق..!!
وإذا داعبت أخي وأخذت من يده شيئاً ولو بالخطأ قلت: يا محتال..!!
وإذا تأخرت يوماً في تنفيذ أمرك لشغل عارض قلت:
يا كسول..!!
وإذا ضربت أختي الصغيرة مرة واحدة ناديتني: يا شرير..!!
وإذا كذبت مرة واحدة- ولو مازحاً- قلت: يا كذاب..!! وكلما استمعت لكلماتك الجائرة أحس أن كياني تغير، ولوني تبدل، وأحس بحرقة تسري في ضلوعي، ومرارة تسكن في حلقي كمرارة كلماتك الجارحة التي تقذفها كصخور البركان الثائر..!!
يا أبتي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطعان، ولا باللعان، ولا الفاحش ولا البذي ".
والذي يقصم الظهر- يا أبتي- أني أراك تهزأ بي وتسخر مني وتكيل لي السب والشتم أمام الناس، فأصبح أمامهم منكسراً مهزوم الإحساس فأصبحت النصيحة قبيحة، والتعليم فضيحة..
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح سن الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت قولي فلا تجزع إذا لم تحط طاعة
الشجار والمخاصمة
يا أبتي: ما زلت أسمع أن البيوت مراتع حنان، وجنان أمان.
بيوت تظللها المحبة، وتكتنفها الألفة، ويغشاها الوداد. فلماذا- يا أبتي- بيتنا خلاف ما أسمع وأرى؟!
لقد أصبح بيتنا ساحة معركة تدور رحاها بينك وبين والدتي لتطحن سعادتنا وأنسنا وبهجتنا، وكأنكما وحشان كاسران يريد كل واحد منكما أن يلتهم الآخر..!!
لماذا- يا أبتي- لا تكفان عن هذه المخاصمة وهذا الشجار واللدد الذي أحرق أعصابنا ومزق سعادتنا، وجعل بيتنا جحيماً لا يطاق؟!
إني- يا أبتي- أحرص الحرص كله على ألا أدخل البيت، بل وأتمنى متى أخرج منه كأسير كبلته القيود وصفدته الأغلال ينتظر متى تحل قيوده ليطلق لقدميه العنان.
فإذا خرجت منه تقاذفتني الدنيا فضاقت علي بما رحبت، وضاقت علي نفسي وكلت من المشي قدمي وتعبت من الهم روحي، عدت إليه مهزوماً مكدوداً مخذولاً كبعد آبق رد إلى سيده وقد عصاه الدهر كله، فأكون كمن يستجير من الرمضاء بالنار.
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب فما حيلة المضطر إلا ركوبها
أعود لأنزوي في ركن من أركانه، أعض أصابع الندم، وأقرع سني من فرط الألم، وألتهم ما تبقى لي من أعصاب وأحرق ما ظل في جسمي من شعور، وأقتات على ما في بدني من إحساس.
فمتى- يا أبتي- أحس فيه بالأمن الذي أتمناه؟!
ومتى أعيش فيه بالحب والود الذي أرجوه؟!
متى..؟! متى؟!
متى يكون الذي أرجو وآمله أما الذي كنت أخشاه فقد كانا
يا أبتي: وإذا ما جئتني يوماً لتحملني من مستشفى، أو تزورني في سجن، أو تبحث عني بين شلة فاسدة أو في بؤرة فاجرة، أو لتنتشلني من ورطة قاهرة.. فلا تلمني، ولكن وجه اللوم لنفسك، فإني ضحية الخصام والشجار، كعود هشمته المعاول وألقي في لهيب النار..!!
همسة
دعوني أعيش.. صرخة أقذفها في وجه من أحب.. لا تتركوني أسيراً للهموم.. غريقاً في المخاوف.. صريعاً للضياع..!!
خريطة الإهتمام
يا أبتي: من حقي أن يكون لي أب أفتخر به وبوجوده وبانتمائي إليه..
فإذا كنت في المدرسة تمنيت أن يسأل عني فأفتخر به وتنتصب به قامتي أمام أساتذتي وصحبتي.
وإذا كنت في المسجد تلهفت أن يسأل عن مقدار حفظي من كتاب الله وكيف يكون سلوكي مع الله في شعائره ومع الناس في معاملتهم، فيستعز هو بما يسمع و أفتخر أنا بما يعلم.
وإذا كنت خارج البيت رجوت أن يسأل عن أولئك الذين أصاحبهم وألهو معهم فيختار لي جليسا صالحا أزداد به كرامة في الدنيا وسعادة في الآخرة، ويحذرني من جليس السوء ورفيق المعصية وزميل الخطيئة ممن يعدي كما يعدي السليم الأجرب و"الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " (صحيح الجامع).
عن المرء لا تسأل وسئل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي (عدي بن زيد)
وإذا كنت في داخل البيت تمنيت أن يعلمني كيف أقضي وقتي؟ وكيف أمارس هوايتي؟ وكيف أعامل والدتي وإخوتي؟
وإذا كنت في السوق رغبت أن يثق بي من غير تفريط فيرشدني في بيعي وشرائي وأخذي وإعطائي وبذلي ومنعي. فأين التوجيه والإرشاد لسبيل الخير والسداد؟
وأين المتابعة والمراقبة؟ ثم أين الحساب والعتاب والعقاب؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة" (رواه البخاري ).
همسة
يا أبتي: المدرسة تشتكي، والمسجد يحن، والبيت يئن، والرفاق يتنافسون.
فأين موقعي في خريطة اهتمامك وأعمالك؟
وماذا أنت صانع معي ولي؟!
خطأ الأمس
يا أبتي: إني أفتش في صدور القوم المحيطين بي عن حب لي وعطف علي، فلا أجد سوى قلوب ملئت حقداً وبغضاً، وأبحث عن السبب في صفحات الماضي التي طواها الزمن فأجدني قد أذقتهم مر الإساءة والأذى.
فما زالت يدي تعبث في بيوتهم، فتهشم ممتلكاتهم، وتتلف مقتنياتهم..
وما فتئ لساني يقدح فيهم وينتقصهم ويلمزهم ويسخر منهم..
وما برحت أضرب أبناءهم وفلذات أكبادهم، وأتعدي عليهم أمام أسماعهم وأبصارهم فتنهشني أعينهم، وتهطل علي وابل لعنات قلوبهم وتكاد تسقط عين أحدهم أمامه لفرط دهشته منك عندما لا يراك تحرك ساكناً أو تسكن متحركاً.
فإذا قام قائمهم ليعنفني بكلمة، أو ليقومني بضربة نظرت إليه شزراً، وقمت معاتباً وذهبت مغاضباً.
حرص بنيك على الآداب في الصغر كيما تقر بهم عيناك في الكبـر
وإنما مثــل الآداب تجمعـها في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
يا أبتي: كان الخطأ مني مصدر لطافة ودعابة وشقاوة في مبتداه. ثم صار طبعاً يسري في عروقي ويخالط سجيتي في منتهاه، فكيف أصلح اليوم خطأ الأمس؟ وقد ترسب في النفس؟ قد ينفع الأدب الأحداث في صغر وليس ينفعهم من بعده الأدب
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت وليس يلين إذا قومته الحطب
فهلا قومت أخطائي، وعاقبتني على زلاتي، وألزمتني حدودي، حتى لا تعظم خطيئتي، ويكبر عدواني، ويزداد أعدائي.
بين مشرق ومغرب
يا أبتي: يهتز قلبي فرحاً ويمتلىء وجداني سروراً عندما أكون طوع أمرك وأمر والدتي، فأمتثل أمركما وألتزم بما يصدر عنكما ومنكما في غير معصية الله تعالى.
ولكن الحيرة تمتلكني، والدهشة تسكنني، وأقف مذهولاً عندما تتنازعني رغباتكما المتباينة، وآراؤكما المختلفة، وأقوالكما المتضاربة وأوامركما المتضادة.
سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب
فأنت تأمرني بأمر والدتي تنهاني عنه..
وأنت تحثني على عمل والدتي تحذرني منه..
وأنت ترغبني في شأن والدتي تتوعدني عليه..
وأصبحت أعيش بين مشرق ومغرب، فرضاك مقرون بسخطها ورضاها ملزوم بسخطك.
فمن أرضي منكما؟ ومن أسخط؟
ولماذا أخسر الأول لأكسب الآخر؟!
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (29) سورة الزمر
أرجوك- يا أبتي- لا تجعلني نهباً للصراع، ووقوداً للنزاع.
أرجوك يا أبتي لا تتركني أسيراً للتناقضات ورهيناً للخلافات.
كن مع الحق، وتمسك به بصدق، وأصلحه برفق.
وتراجع في الخطى عن الخطأ، وأحسن مداراة الأمور مع والدتي، ووحد وجهات النظر ومسار التوجيه.
طفل الأمس رجل اليوم
يا أبتي: لقد امتطيت ظهر الزمن، وعبرت ميدان الحياة.. فما عدت ذاك الذي يتدهده في مشيته ويتعثر في خطوته..
إني مضيت في مضمار العمر ربيعاً بعد ربيع.. ألتهم
لأيام وأبتلع السنين..
كان يكبر جسمي فينمو معه عقلي وفكري ومكتسباتي.. وكان يمتلىء بدني فتربو معه مداركي وقدراتي..
وأصبحت- يا أبتي- أحس بدم الرجولة يسري في عروقي، ويمضي في أوردتي.. وأنت- ويا للأسف- مازلت تنظر لي كطفل خداج لا يحسن إلا أن يكون كلاً على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير..
لا تحقرن صغيرأ في تقلبه إن البعوضة تدمي مقلة الأسد
يا أبتي: كنت أرتضيك أباً رحيماً واليوم أتمناك أباً شفيقاً وأنيساً صديقاً وأخاً رفيقاً.
فمتى تجالسني فأسكب في سمعك كل ما يؤرقنى ويعتريني..؟!
متى نفتح بوابة الصراحة، ونمد جسور الثقة بيني وبينك؟ متى أخلع عن وجهي قناع الماضي، فتراني بصورة الحاضر، فتعاملني كما أنا الآن لا كما كنت في ماضي الزمان؟!
متى أغرس يدي في يديك؟ وأزرع عيني في مقلتيك؟ ثم أبثك ما عندي بكل صدق وتجرد، بلا تزين ولا تلون ولا تملق؟!
همسة
يا أبتي: أنا لا أريد أن أشكو منك..
بل أرجو أن أشكو عليك..!
فمتى تغمض بصرك عن طفل الأمس، لتفتح عينك لترى رجل اليوم؟!!
موازين مختلة
يا أبتي: إني أرتضع منك كل مبدأ تحمله، وكل هدف تعيش له، وكل خلق تتحلى به، وكل صفة تتزين بها، وما أحسبني إلا فرعأ في شجرة أنت أصلها.
ينشأ الصغير على ما كان والده إن العروق عليها ينبت الشجر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى بعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )) . فلماذا- يا أبتي- ربيتني على مفاهيم مغلوطة وموازين مقلوبة ومقاييس مختلة، فعشت عليها ووزنت الناس بها
وتعاملت مع الأشياء من خلالها..؟!
فقد علمتني أن التعامل بالحسنى والأخلاق الطيبة إنما هي سذاجة وحماقة تجر على صاحبها الخسارة والفاقة. وأن الكذب في الحديث والنفاق في المعاملة والتلون في المخاطبة إنما هي سياسة وكياسة.
وأن التحايل على الناس وغشهم وسلب ممتلكاتهم نوع من الذكاء والدهاء.
وأن الألفاظ الساقطة والحركات البذيئة إنما هي دعابة ولطافة لا ضير فيها ولا تثريب عليها.
وأن صدق اللهجة وبذل المهجة إنما هو خبال ويجز إلى بال. وأن بذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بالحق إنما هي سلب للحريات وهدر للكرامات وتدخل في حياة الآخرين.
فنشأت- ويا للأسف- ذكياً غير زكي.
وترعرعت- ويا للحسرة- قوياً غير نقي.
وما ذاك إلا لبذرة فاسدة غرست في أرض طاهرة فأنتجت ثمرة كاسدة.
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ويعديهم داء الفساد إذا فســد
يعظم في الدنيا بفضل صلاحه ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما راع غش رعيته فهو في النار))
الدعاء عليه
يا أبتي:
لماذا- يا أبتي- عندما أفعل ما يغضبك، وأجترح ما يسخطك ترفع أكف الضراعة إلى الذي يسمع من دعاه ويجيب من ناداه، فتدعو علي بالويل والثبور وسيئات الأمور، وترجوه أن ينزل بي ما لا ترضاه لأعدى أعدائك، فكيف بأقربهم منك وأحبهم إليك؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات، لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)).
فلعلها- يا أبتي- دعوة منك توافق استجابة من الله فأهلك وأخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ينادي مشفقاً في سنته على أمته فيقول: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم ، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجاب لكم " .
وعليك- يا أتجي- بالدعاء لي آناء الليل وأطراف النهار، في سرك وعلانيتك، في رغبك ورهبك، في عسرك ويسرك، في منشطك ومكرهك، فلعلك- يا أبتي- ترفع يداك، وتذرف عيناك، ويقشعر جلدك ويلين قلبك، ويلهج لسانك، فتقول: يا الله..
فيقول لك من يجيب دعوة الداعي إذا دعاه: لبيك يا عبدي
فتقول: يارب.. ابني.. ثم ابني.. ثم ابني..
فيقول لك المجيب القريب: قد فعلت، فتكتب لي سعادة الدنيا والعقبى. وذلك هو الفوز العظيم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد ودعوة الصائم، ودعوة المسافر".
الخاتمة
.. وفي الختام.. أيها الآباء الكرام:
ها هم أبناؤكم يحملون يراع التذكير ليسطروا على صدر هذه الرسالة ما دار في خلدهم وما احتبس في أعماقهم وما احتوته جوانحهم فيقولون لكم:
يا من تحملتم أمانة عظيمة ومسؤولية جسيمة أبت من حملها السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها ومن تبعاتها..
يا من أعطاكم الله الزينة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (46) سورة الكهف. وابتلاكم بالفتنة {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (28) سورة الأنفال وخصكم بالوصية {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } (11) سورة النساء وحذركم من العداوة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (14) سورة التغابن.
اتقوا الله فينا.. فنحن فلذات أكبادكم.. ومنشأ أصلابكم.. وامتداد أنسابكم.
ونحن أحلام الماضي الغابر، وسعادة الحاضر العابر، وآمال المستقبل السائر.
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض
اتقوا الله فينا.. وربونا على حب الله وخوفه والرجاء فيما عنده ومراقبته والوقوف عند حدوده والإذعان لأوامره والتمسك بدينه.
ربونا على منهج الله.. وأدبونا بآداب وشمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم. عودونا على الطاعة وعلمونا العبادة، وخذوا بحجزنا عن النار وغذونا بالحلال فنحن نصبر على الجوع والعطش ولكن لا نصبر على النار.
ربونا على أن نعيش في الدنيا بمنظار الآخرة فنتزود من ممرنا لمقرنا ومن دنيانا لآخرتنا، وكونوا سلفنا إلى الجنة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (21) سورة الطور
فنكون وإياكم في الجنة في شغل فاكهون على الأرائك ينظرون وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [سورة الصافات الآيات: (180-181) ]
وكتبه أفقر الخلق إلى الخالق:
عبد اللطيف هاجس الغامدي
تغمده الله برحمته وعامله بلطفه
جدة (21468) ص. ب (34416)
إلى لقاء قريب
يا أبتي:
أرادت- أختي- أن تقول شيئاً فتعثرت كلماتها في فمها.. وتبعثرت حروفها على شفتها.. حياء منك وتقديراً لك فاستلت اليراع من غمده، لتغرسه في عمق المحبرة ونقشت على صدر الورق:
يا أبتي:
انتظر مني رسالة..
دعاء
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}
[ آل عمران-38]
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء}
[ إبرا هيم- 40]
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ }
[الأنبياء- 89]
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}
[الفرقان- 74]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على خير الأنام: سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وذريته وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
هذه رسائل من بعض الأبناء إلى بعض الآباء..
يبثون فيها شكواهم، ويعبرون على صفحاتها عن مشاكلهم، ويسطرون من خلال حروفها عن أمانيهم وآمالهم وآلامهم. يرفعونها لكم معاشر الآباء مع الحب كله. والشوق كله.. والعرفان كله.
فيقولون لكم: جزاكم الله عنا نحن الأبناء كل خير، ورزقنا بزكم وطاعتكم في دنياكم، ومتعنا بكم ومتعكم بنا أبناء مخلصين وبررة محسنين، رحماء بكم مخلصين لكم قائمين بحقوقكم، ورزقنا الدعاء المستجاب لكم بعد موتكم وانصرام أمركم، ونشكر لكم كل ما قدمتم لنا، ولكم المنة بعد الله علينا، فطالما حرمتم أنفسكم من أجلنا، ولطالما أشقيتم أرواحكم من أجل سعادتنا، فكم جعتم لنشبع وظمئتم لنرتوي، وتعزيتم لنكتسي، وسهرتم لننام.
فأبشروا بالأجر من الله تعالى، فما قدمتموه وما عملتموه وما بذلتموه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها {لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (52) سورة طه ولكن رحمتكم بنا، وعطفكم علينا، وإخلاصكم لنا شجعنا أن نقدم لكم بعض العتاب عن أخطاء وقعت في تربيتنا، منشؤها العاطفة الغالبة، أو الثقة المفرطة، أو الصوارف الملهية، أو الشغل العارض وإنما كل ذلك بدافع الحب والرحمة، وبوازع العطف والشفقة وكلنا ذوو خطأ.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط (للحريري صاحب المقامات)
المنى كل المنى أن تتقبلوها منا بقلوب واعية، وآذان صاغية فتكسبنا أكفاً داعية ونفوسا راضية.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق
أين أنت.. يا أبتاه ؟
يا أبتي:
استمع إلى شكواي أبثها إليك.
ومشكلتي أضعها بين يديك..
فمشكلتي.. يا أبتي.. أنك مشكلتي..
فأين أنت.. يا أبتاه؟!
بيتك الذي بنيته.. يناديك..
عشك الذي رعيته.. يناجيك..
ابنك الذي نسيته.. يبحث عنك.. ليدنو منك..
أعمالك.. شركاتك.. عقاراتك.. رفاقك..
إنهم جميعاً ألد أعدائي.. لأنهم أخذوك مني وأبعدوك عني، بالرغم من علمي أنك لا تعمل بها ولا فيها إلا من أجلي وإخوتي..
ولكن يا أبتي "إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولولدك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه " "وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ".
فأنا أريدك يا أبتي..
أتمنى أن أضع رأسي على صدرك وأبثك همي وحزني.. أحلم أن أدس وجهي بين أصابعك، وأعبر عن حبي لك، وشوقي إليك ولهفتي عليك..
أريدك أن تداعبني، تعلمني، تفهمني، تؤدبني..
أرغب في أن أحس أنك معي ولي وبي..
فأين.. أين أنت يا أبتاه..؟!!
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له أما تخلت أو أباً مشغولاً
مطالب الروح
يا أبتي:
دعني أقدم لك الشكر كله على ما بذلته من أجلي وفي سبيل راحتي وسعادتي..
فأنت قد جلبت لي أفضل المطايب والمشارب والمراكب..
وأسكنتني أجمل وأهنأ المساكن..
وبذلت لي أسباب الراحة والرفاهية على قدر جهدك وطاقتك..
ولكنك- يا أبتي- قد قصرت في أهم الجوانب وأعظم المطالب..
إنها مطالب الروح والقلب والإيمان، وكل هذه الأمور غذاؤها الطاعة وزادها التقوى ووقودها العبادة، وبلسمها العمل الصالح.
فهل قمت بحقوقها كما قمت بحقوق الجسد؟!
يا خادم الجسم كم تسعى لراحته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
فمتى أخذت بيدي يوماً وذهبت بى إلى محاضرة قيمة يزداد فيها علمي وعملي..؟!
ومتى دخلت علي يوماً بشريط إسلامي مفيد يعمر به وقتي وتكثر به حسناتي؟!
ومتى أهديتني كتاباً دينياً يأخذ بيدي وينير لي دربي في هذا الزمان الذي كثرت ظلماته وادلهمت شبهاته وشهواته؟! ومتى ألصقت قدمي بقدمك وكتفي بكتفك لأداء الصلاة امتثالاً لأمر الله {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } (132) سورة طه {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (36) سورة النور
والتزاماً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" ؟!
ومتى حفظتني القرآن؟!
ومتى علمتني السنة؟!
ومتى فقهتني في الدين؟!
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجى ولكن يعوده التدين أقربوه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " .
تهيئة جو المعصية
يا أبتي:
هل رأيت يوماً قارباً صغيراً تصارعه أمواج البحر في عتو واستكبار؟!
أو أبصرت زهرة ندية تقاوم- على ضعفها- سطوة إعصار؟!
أو لمحت طائراً ضعيفاً مكسور الجناح تطارده سباع وضباع في نهم وسعار؟!
إني- يا أبتي- أضعف من هؤلاء جميعاً في جو الفتن والشهوات والشبهات الذي أعيشه ليلاً ونهاراً..
فالعين لا ترى إلا ما يسحرها..
والأذن لا تسمع إلا ما يطربها..
والجوارح لا تعيش إلا ما يغريها..
والقلب لا يشعر إلا بما يفتنه..
والعقل لا يدرك إلا ما يضله..
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد
لقد هيأت لي- يا أبتي- جو المعصية وأحطتني بسياج الخطيئة، فتنفست رائحة الشهوة في الشهيق فأخرجت ذلك معصية لله تعالى مع الزفير..
إن قنوات التلقي عندي لا تلتقط إلا ما يفتن فأصبح البث ممزوجاً بالخطايا والرزايا والبلايا..
ومن يكن الغراب له دليل يمر به على جيف الكلاب
ألقيتني- يا أبتي- في بحر الشهوات ولم تلبسني طوق نجاة ثم تريدني بعد ذلك أن أكون ملكاً معصوماً!!! هيهات.. هيهات..
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء
يا أبتي: إني لا أريد أن أكون خصيماً لك يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [ سورة الشعراء الآيتان:88-89] فأمسك بتلابيبك يوم القيامة يوم الحسرة والندامة فأقول:
يا رب خذ لي مظلمتي من والدي..
يا رب إنه رآني على المعصية فلم ينهني..
يا رب إنه أبصرني محجماً عن المعروف فلم يأمرني..
يا رب إنه بذل لي أسباب المعصية، وزين في عيني الخيطئة وألقاني في نار الشهوات، فأحرقت إيماني والتهمت حسناتي وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يعين قومه على غير الحق، مثل بعير تردى وهو يجر بذنبه " .
يا أبتي: إني أمانة في عنقك.. وأنت مسؤول عني أمام ربي وربك.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) .
فاشغلني بطاعة الله حتى لا أشغل نفسي بمعصيته.. استعملني في مرضاة الله حتى لا أقع فيما يغضبه..
سخرني في قربات الله كي لا أجترح ما يسخطه..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) سورة التحريم .يا أبتي: برني صغيراً حتى أبرك كبيراً.
ولا تعقني صغيراً كي لا أعقك كبيراً.
فكما تدين تدان، وما تزرعه اليوم تحصده غداً ومن أراد النجاة أخذ بأسبابها..
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
مخالفة الفعل للقول
يا أبتي: إنني أعيش في تخبط عجيب وصراع غريب.. وذلك لأني أراك تأمرني بأمور أنت لا تفعلها.. وتنهاني عن أمور أنت ترتكبها..؟!
فهل تريدني أن أقتدي بأقوالك أو بأفعالك التي بينها بعد المشرقين؟!
فأنت تأمرني بالصدق وتحثني عليه، وترغبنى فيه، وتحذرني من الكذب وتنهاني عنه..
وأراك في مواضع كثيرة تمارس ما نهيتني عنه وحذرتني منه..!! فتكذب تارة بل وتأمرني بالكذب تارة أخرى..!!
فهل تذكر- يا أبتي- عندما طرق علينا طارق يريدك ويبغيك فأمرتني أن أقول له: إن والدي غير موجود..!! فألزمتني أن أقول بلساني ما تكذبه عيني..
وأتحدث بفمي ما يأباه قلبي.. ويغضب ربي..
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وتأمرني- يا أبتي- بأن آكل الحلال، وأكون أبعد ما أكون عن الحرام، وتحدثني بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "كل جسد نبت من السحت فالنار أولى به " .
وإذا بك ترسلني كي أشتري لك علبة دخان أو أوقد لك مئذنة الشيطان .
إذا كان رب البيت بالدف مولعاً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
لقد أصبحت المثل والقيم التي تعلمني إياها في نظري كلاماً نظرياً لا يمت للواقع بصلة، فقد ألفيتني أتعلم منك كلاماً في الصباح وأرى ما يخالفه أفعالاً في المساء..!!
فبماذا أقتدي؟!
أبقولك أم بفعلك؟!
بحديثك أم سلوكك؟!
بكلامك أم بصفاتك؟!
اسمع لي- يا أبتي- أن أهمس في أذنك قول ربي وربك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} سورة الصف
يا أيها الرجل المعقم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهنالك يقبل ما وعظت ويقتدى بالعلم منك وينفع التعليم
يا أبتي: لا ألفينك يوم القيامة ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان! ما شأنك؟
ألست كنت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟!
فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه " .
أعيذك بالله- أيها الحبيب- أن تكون منهم، وأن يكون حالك كحالهم..
التدليل الزائد
يا أبتي: إني أشكو إليك من نفسي التي ما قدرت على مقارعة الخطوب ولا مواجهة الحياة. فهي مطيتي في حال الرخاء، لكنها عدوتي في حال الشدة.
وأجدني أسير بدونك- يا أبتي- في مضمار الدنيا كمقاتل يحارب في ساح المعركة بدون سلاح، أو كهشيم تذروه الرياح، أو كقارب صغير يعاني من لطم الأمواج وفقد الملاح.
وأعود بالذاكرة للوراء قليلاً وأفتش في صفحات الماضي، فأجد السبب في هذا الضعف الذي أعيشه وهذا الخور الذي أعاني منه هو: تدليلك الزائد لي .
فقد عودتني على أن تكون طلباتي مجابة ورغباتي محققة، فالقول الجميل قولي، والفعل الحسن فعلي، والزلل مني في عينك حسنة، والخطأ مني في نظرك صواب.
تعودت أن أكون مخدوماً لا خادماً، وآخذاً لا معطياً، وآمراً وناهياً، وحين فقدتك- يا أبتي- فقدت كل شيء.. وأصبحت بعدك لا شيء.!!
عشت على كلمات المدح والثناء، فمن لي بتحمل الكلام النقيض؟!
ترعرعت على احتياجاتي الملباة، فكيف بي إذا واجهت الحرمان البغيض؟!
نشأت في السراء، فكيف أطيق صبراً على الضراء؟! تعودت على كلمات الحب والإطراء، فكيف أغفل الطرف عن كلمات الكره والبغضاء؟!
ألفت ركوب قوارب السعادة، فكيف أركب ملزماً قوارب الشقاء؟!
تربيت على اليسر، فمن لي بقلب يتحمل العسر؟!
تعودت أن يطرق سمعي نسيم (نعم)، فماذا أقول إذ تفجر في مسمعي بركان (لا)؟!
حسن قول (نعم) من بعد (لا) وقبيح قول (لا) بعد (نعم)
إن (لا) بعد (نعم) فاحشة فبـ(لا) فابدأ إذا خفت الندم
فيا ليتك إذ أعطيتني حرمتني، وإذ رغبتني رقبتني..
فعشت متزن الشخصية سوي النمو، ما بين قسوة مغقفة بالرحمة وغلظة ممزوجة بحنان.
فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً فليقس أحياناً على من يرحم
رأس كل خطيئة
يا أبتي: سمعت أن شاباً صغيراً مر بجواره شيخ كبير، فوجده يبكي. فقال الشيخ للشاب: ما لك- يا بني- رحمك الله تبكي؟!
فقال الشاب: رأيت أمي تشعل التنور بصغير الحطب، فخشيت أن يشعل الله بي وبأمثالي من الصغار نار جهنم يوم القيامة، فذلك الذي أبكاني..!!
يا أبتي: لماذا لا أحس بما يحس به هذا الشاب؟! ولماذا لا أعيش كما يعش؟!
لأنك يا أبتي- وبكل صراحة- ما ربيتني كما تربى ولا علمتني كما تعلم..
واسمح لي- يا أبتي- أن أقسو في العبارة قليلاً، يشجعني على ذلك حلمك بي وعطفك علي واستماعك الجميل لي..
إنك ربيتني لأكون عبداً للدنيا فعليها أعيش، ومن أجلها ألهث وفي سبيلها أغالب، فهي محط آمالي ومحور اهتمامي ومنتهى أحلامي، ولم تربني لأكون عبداً لله كما يحب الله، أستعد للقائه وأومن بقضائه، وألتزم بأمره، وأقف مذعناً عند نهيه.. وهل خلقت الدنيا إلا من أجل الآخرة؟!
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي ديناً
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء له قرينا
وسأبرهن لك على ذلك بمثال، وإن كانت الأمثلة على ذلك كثيرة ووفيرة..
فأنت تذكر- أيها الحبيب- عندما تأخرت عن المدرسة يوماً بدون عذر، ولم أصل لله تعالى ركعة واحدة في ذلك اليوم، وأنت على علم بهذا واطلاع عليه.
أسائلك بالله- يا أبتي- علام وقع لومك وعتابك؟ وعلام كان عقابك؟
إنك- يا أبتي- عاقبتني على تأخري عن المدرسة ولكنك لم تعاقبني ولم تلمني- مجرد اللوم- على عدم صلاتي، ووقوفي موقف العز بين يدي خالقي ومولاي..
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فهل تريدني أن أهتم بالدنيا أكثر من الدين؟!
وهل ترغب أن أخاف منك أكثر من خوفي من الله؟!
وهل تبتغي أن أعمر دنياي وأخرب آخرتي، فأنتقل من العمار إلى الخراب عندما ينتهي زمن المهلة ويأتي زمن النقلة؟!
لماذا حذرتني- يا أبتي- من سخطك وعقابك؟ ولم تحذرني وتنذرني من سخط الله وعقابه وأليم عذابه؟!
أكانت الدنيا أحب إليك من الآخرة؟!
أم كان الحطام الفاني العاجل خيراً عندك وأحب إلى نفسك من النعيم الباقي الآجل؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " .
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة) .
اعدلوا هو أقرب للتقوى
يا أبتي: دعني أبثك حزني وألمي وكمدي هذه المرة فهذا حديث الصراحة في هذا اليوم..
حديث الروح للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عناء
يا أبتي: على العدل قامت السموات والأرض، وبالقسط أمر الله وعلى المساواة قام ميزان الحق والباطل {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (90) سورة النحل.
فلماذا- يا أبتي- لا تعدل بيني وبين إخوتي؟!
إنك تعطيهم وتمنعني..
ترضيهم وتسخطني..
تدنيهم وتبعدني..
تمدحهم وتهجوني..
تشركني في أخطائهم ولا تشركني في حسناتهم.. فكان حالي وحالهم:
غيري جنى وأنا المعذب فيكم فكأنني سبابة المتندم
أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم ". وقوله صلى الله عليه وسلم: "اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف ". عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأرجعه ". وفي رواية: فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم ". فرجع أبي فرد تلك الصدقة. وفي رواية: "أشهد على هذا غيري؟ ثم قال: أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟! قال: بلى، قال: فلا إذاً". وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بشر، ألك ولد سوى هذا؟ فقال: نعم، قال: أكلهم وهبت له مثل هذا؟ قال: لا، قال: فلا تشهدني إذاً فإني لا أشهد على جور".
وفي رواية: "لا تشهدني على جور"
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
فلا تترك الشيطان- يا أبتي- يزرع حقول الحقد والحسد والبغض بيني وبين إخوتي فإن: ((الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) وقد قال الأسوة القدوة صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه فكه بزه، أو أوبقه إثمه.. ".
القسوة والغلظة
يا أبتي: يا من تحرص كل الحرص على تربيتي والعناية بي، وعدم صدور الخطأ مني والزلل عني.
ألم تعلم- يا أبتي- أنني إنسان معرض للخطأ وكلنا ذوو خطأ.
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه
فلماذا- يا أبتي- تكون العصى سبيل المفاهمة، ويكون الضرب طريق العقاب، وتكون الشدة سلم التعلم؟!
فلا سبيل للعتاب، مع أن صائح الحكمة يقول:
تأن ولا تعجل بلومك صاحباً لعل له عذر وأنت تلوم
ولا فرصة لإبداء الرأي، مع أن صائح الحكمة يقول:
لا تحقر الرأي يأتيك الحقير به فالنحل وهو ذباب طائر العسل
ولا أمل في قبول الأعذار، مع أن صائح الحكمة يقول:
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً إن بر عندك فيما قال أو فجراً
لقد أطاعك من يرضيك ظاهره وقد أجلك من يعصيك مستتراً
فلماذا- يا أبتي- تسلك الطريق من آخره، ولا تعرف من العلاج إلا الكي؟!
لماذا تنقطع السبل.. كل السبل إلا سبيل القوة والقسوة والغلظة {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (159) سورة آل عمران أين الرفق؟! الذي "لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه " "وما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم ".
أين كظم الغيظ؟! و"من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما يشاء" .
يا أبتي: كن سهلاً في غير تفريط، وقوياً من غير إفراط فإنه "من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار".
وليست الأمراض جميعاً- يا أبتي- تعالج بعلاج واحد، والعلاج خطوة خطوة. فلماذا نبدأ من الخطوة الأخيرة؟! النظرة منك يا أبتي تعاقبني. الهجر منك يا أبتي يعذبني. العتاب منك يا أبتي يقومني..
فكل داء له دواء، وكل خطأ له عقوبة..
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
وليكن لك- يا أبتي- في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فإنه رحمة الله تعالى للعالمين و"كان أرحم الناس بالعيال والصبيان " وكان يقول: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويجل كبيرنا" .
وهو الذي يقول: "علموا، ويسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت " .
سقط المتاع
يا أبتي إن بين جوانحي قلباً يخفق، وتحت مفرق رأسي عقل يفكر..
فلماذا تريدني- يا أبتي- مسلوب الإرادة، منهوب الرغبة، ممسوخ الميول؟!
لماذا تسلبني أهلية التفكير والتدبير..؟!
إنك- يا أبتي- جعلتني في البيت كما مهملاً، ومن سقط المتاع.
فلا قيمة لي ولا اعتبار..
فلا تسألني عن رأي..
ولا تشاورني في أمر..
ولا تأخذ برأي في قضية..
فقولي محكوم عليه بالخطأ ولو لم أقله..
وفكرتي محكوم عليها بالفشل من قبل أن تعمل.. وأصبحت موجوداً بغير وجود..!!
وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع
والله تعالى قد أمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران مع أن الأمر أمر الله والقضاء قضاؤه فلا معقب لحكمه، ولا راد لأمره.
وما هو رأي الصحابة رضي الله عنهم- وهم عرضة للخطأ- مع رأي من لا ينطق عن الهوى ولا يضل ولا يغوى ولكن {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب
شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تبصر منها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة
فيا أبتي: من ينمي مداركي- بعد الله- سواك؟!
ومن يعلمني كيف اختار؟ ومتى أصنع القرار إلاك؟!
ومن يفتق ذهني؟ ويحرك عقلي؟ ومن يجعلني أعتمد على نفسي وأثق بها- بعد الله- إلا أنت؟!
ولا تلمزوا أنفسكم
يا أبتي: قرأت في كتاب الله أن الله قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات
فلماذا أسمع منك تلك العبارات الشائنة، والألفاظ القبيحة، والأوصاف الجارحة التي تشتمني بها؟!
لماذا تسخر من هفواتي؟ وتهزأ من سقطاتي؟
لماذا تلمزني بالألقاب؟ وتسخر مني وتزدريني لأتفه الأسباب؟
فإذا أخذت قلماً من جيبك بدون علمك قلت: يا سارق..!!
وإذا داعبت أخي وأخذت من يده شيئاً ولو بالخطأ قلت: يا محتال..!!
وإذا تأخرت يوماً في تنفيذ أمرك لشغل عارض قلت:
يا كسول..!!
وإذا ضربت أختي الصغيرة مرة واحدة ناديتني: يا شرير..!!
وإذا كذبت مرة واحدة- ولو مازحاً- قلت: يا كذاب..!! وكلما استمعت لكلماتك الجائرة أحس أن كياني تغير، ولوني تبدل، وأحس بحرقة تسري في ضلوعي، ومرارة تسكن في حلقي كمرارة كلماتك الجارحة التي تقذفها كصخور البركان الثائر..!!
يا أبتي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطعان، ولا باللعان، ولا الفاحش ولا البذي ".
والذي يقصم الظهر- يا أبتي- أني أراك تهزأ بي وتسخر مني وتكيل لي السب والشتم أمام الناس، فأصبح أمامهم منكسراً مهزوم الإحساس فأصبحت النصيحة قبيحة، والتعليم فضيحة..
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح سن الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت قولي فلا تجزع إذا لم تحط طاعة
الشجار والمخاصمة
يا أبتي: ما زلت أسمع أن البيوت مراتع حنان، وجنان أمان.
بيوت تظللها المحبة، وتكتنفها الألفة، ويغشاها الوداد. فلماذا- يا أبتي- بيتنا خلاف ما أسمع وأرى؟!
لقد أصبح بيتنا ساحة معركة تدور رحاها بينك وبين والدتي لتطحن سعادتنا وأنسنا وبهجتنا، وكأنكما وحشان كاسران يريد كل واحد منكما أن يلتهم الآخر..!!
لماذا- يا أبتي- لا تكفان عن هذه المخاصمة وهذا الشجار واللدد الذي أحرق أعصابنا ومزق سعادتنا، وجعل بيتنا جحيماً لا يطاق؟!
إني- يا أبتي- أحرص الحرص كله على ألا أدخل البيت، بل وأتمنى متى أخرج منه كأسير كبلته القيود وصفدته الأغلال ينتظر متى تحل قيوده ليطلق لقدميه العنان.
فإذا خرجت منه تقاذفتني الدنيا فضاقت علي بما رحبت، وضاقت علي نفسي وكلت من المشي قدمي وتعبت من الهم روحي، عدت إليه مهزوماً مكدوداً مخذولاً كبعد آبق رد إلى سيده وقد عصاه الدهر كله، فأكون كمن يستجير من الرمضاء بالنار.
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب فما حيلة المضطر إلا ركوبها
أعود لأنزوي في ركن من أركانه، أعض أصابع الندم، وأقرع سني من فرط الألم، وألتهم ما تبقى لي من أعصاب وأحرق ما ظل في جسمي من شعور، وأقتات على ما في بدني من إحساس.
فمتى- يا أبتي- أحس فيه بالأمن الذي أتمناه؟!
ومتى أعيش فيه بالحب والود الذي أرجوه؟!
متى..؟! متى؟!
متى يكون الذي أرجو وآمله أما الذي كنت أخشاه فقد كانا
يا أبتي: وإذا ما جئتني يوماً لتحملني من مستشفى، أو تزورني في سجن، أو تبحث عني بين شلة فاسدة أو في بؤرة فاجرة، أو لتنتشلني من ورطة قاهرة.. فلا تلمني، ولكن وجه اللوم لنفسك، فإني ضحية الخصام والشجار، كعود هشمته المعاول وألقي في لهيب النار..!!
همسة
دعوني أعيش.. صرخة أقذفها في وجه من أحب.. لا تتركوني أسيراً للهموم.. غريقاً في المخاوف.. صريعاً للضياع..!!
خريطة الإهتمام
يا أبتي: من حقي أن يكون لي أب أفتخر به وبوجوده وبانتمائي إليه..
فإذا كنت في المدرسة تمنيت أن يسأل عني فأفتخر به وتنتصب به قامتي أمام أساتذتي وصحبتي.
وإذا كنت في المسجد تلهفت أن يسأل عن مقدار حفظي من كتاب الله وكيف يكون سلوكي مع الله في شعائره ومع الناس في معاملتهم، فيستعز هو بما يسمع و أفتخر أنا بما يعلم.
وإذا كنت خارج البيت رجوت أن يسأل عن أولئك الذين أصاحبهم وألهو معهم فيختار لي جليسا صالحا أزداد به كرامة في الدنيا وسعادة في الآخرة، ويحذرني من جليس السوء ورفيق المعصية وزميل الخطيئة ممن يعدي كما يعدي السليم الأجرب و"الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " (صحيح الجامع).
عن المرء لا تسأل وسئل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي (عدي بن زيد)
وإذا كنت في داخل البيت تمنيت أن يعلمني كيف أقضي وقتي؟ وكيف أمارس هوايتي؟ وكيف أعامل والدتي وإخوتي؟
وإذا كنت في السوق رغبت أن يثق بي من غير تفريط فيرشدني في بيعي وشرائي وأخذي وإعطائي وبذلي ومنعي. فأين التوجيه والإرشاد لسبيل الخير والسداد؟
وأين المتابعة والمراقبة؟ ثم أين الحساب والعتاب والعقاب؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة" (رواه البخاري ).
همسة
يا أبتي: المدرسة تشتكي، والمسجد يحن، والبيت يئن، والرفاق يتنافسون.
فأين موقعي في خريطة اهتمامك وأعمالك؟
وماذا أنت صانع معي ولي؟!
خطأ الأمس
يا أبتي: إني أفتش في صدور القوم المحيطين بي عن حب لي وعطف علي، فلا أجد سوى قلوب ملئت حقداً وبغضاً، وأبحث عن السبب في صفحات الماضي التي طواها الزمن فأجدني قد أذقتهم مر الإساءة والأذى.
فما زالت يدي تعبث في بيوتهم، فتهشم ممتلكاتهم، وتتلف مقتنياتهم..
وما فتئ لساني يقدح فيهم وينتقصهم ويلمزهم ويسخر منهم..
وما برحت أضرب أبناءهم وفلذات أكبادهم، وأتعدي عليهم أمام أسماعهم وأبصارهم فتنهشني أعينهم، وتهطل علي وابل لعنات قلوبهم وتكاد تسقط عين أحدهم أمامه لفرط دهشته منك عندما لا يراك تحرك ساكناً أو تسكن متحركاً.
فإذا قام قائمهم ليعنفني بكلمة، أو ليقومني بضربة نظرت إليه شزراً، وقمت معاتباً وذهبت مغاضباً.
حرص بنيك على الآداب في الصغر كيما تقر بهم عيناك في الكبـر
وإنما مثــل الآداب تجمعـها في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
يا أبتي: كان الخطأ مني مصدر لطافة ودعابة وشقاوة في مبتداه. ثم صار طبعاً يسري في عروقي ويخالط سجيتي في منتهاه، فكيف أصلح اليوم خطأ الأمس؟ وقد ترسب في النفس؟ قد ينفع الأدب الأحداث في صغر وليس ينفعهم من بعده الأدب
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت وليس يلين إذا قومته الحطب
فهلا قومت أخطائي، وعاقبتني على زلاتي، وألزمتني حدودي، حتى لا تعظم خطيئتي، ويكبر عدواني، ويزداد أعدائي.
بين مشرق ومغرب
يا أبتي: يهتز قلبي فرحاً ويمتلىء وجداني سروراً عندما أكون طوع أمرك وأمر والدتي، فأمتثل أمركما وألتزم بما يصدر عنكما ومنكما في غير معصية الله تعالى.
ولكن الحيرة تمتلكني، والدهشة تسكنني، وأقف مذهولاً عندما تتنازعني رغباتكما المتباينة، وآراؤكما المختلفة، وأقوالكما المتضاربة وأوامركما المتضادة.
سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب
فأنت تأمرني بأمر والدتي تنهاني عنه..
وأنت تحثني على عمل والدتي تحذرني منه..
وأنت ترغبني في شأن والدتي تتوعدني عليه..
وأصبحت أعيش بين مشرق ومغرب، فرضاك مقرون بسخطها ورضاها ملزوم بسخطك.
فمن أرضي منكما؟ ومن أسخط؟
ولماذا أخسر الأول لأكسب الآخر؟!
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (29) سورة الزمر
أرجوك- يا أبتي- لا تجعلني نهباً للصراع، ووقوداً للنزاع.
أرجوك يا أبتي لا تتركني أسيراً للتناقضات ورهيناً للخلافات.
كن مع الحق، وتمسك به بصدق، وأصلحه برفق.
وتراجع في الخطى عن الخطأ، وأحسن مداراة الأمور مع والدتي، ووحد وجهات النظر ومسار التوجيه.
طفل الأمس رجل اليوم
يا أبتي: لقد امتطيت ظهر الزمن، وعبرت ميدان الحياة.. فما عدت ذاك الذي يتدهده في مشيته ويتعثر في خطوته..
إني مضيت في مضمار العمر ربيعاً بعد ربيع.. ألتهم
لأيام وأبتلع السنين..
كان يكبر جسمي فينمو معه عقلي وفكري ومكتسباتي.. وكان يمتلىء بدني فتربو معه مداركي وقدراتي..
وأصبحت- يا أبتي- أحس بدم الرجولة يسري في عروقي، ويمضي في أوردتي.. وأنت- ويا للأسف- مازلت تنظر لي كطفل خداج لا يحسن إلا أن يكون كلاً على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير..
لا تحقرن صغيرأ في تقلبه إن البعوضة تدمي مقلة الأسد
يا أبتي: كنت أرتضيك أباً رحيماً واليوم أتمناك أباً شفيقاً وأنيساً صديقاً وأخاً رفيقاً.
فمتى تجالسني فأسكب في سمعك كل ما يؤرقنى ويعتريني..؟!
متى نفتح بوابة الصراحة، ونمد جسور الثقة بيني وبينك؟ متى أخلع عن وجهي قناع الماضي، فتراني بصورة الحاضر، فتعاملني كما أنا الآن لا كما كنت في ماضي الزمان؟!
متى أغرس يدي في يديك؟ وأزرع عيني في مقلتيك؟ ثم أبثك ما عندي بكل صدق وتجرد، بلا تزين ولا تلون ولا تملق؟!
همسة
يا أبتي: أنا لا أريد أن أشكو منك..
بل أرجو أن أشكو عليك..!
فمتى تغمض بصرك عن طفل الأمس، لتفتح عينك لترى رجل اليوم؟!!
موازين مختلة
يا أبتي: إني أرتضع منك كل مبدأ تحمله، وكل هدف تعيش له، وكل خلق تتحلى به، وكل صفة تتزين بها، وما أحسبني إلا فرعأ في شجرة أنت أصلها.
ينشأ الصغير على ما كان والده إن العروق عليها ينبت الشجر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى بعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )) . فلماذا- يا أبتي- ربيتني على مفاهيم مغلوطة وموازين مقلوبة ومقاييس مختلة، فعشت عليها ووزنت الناس بها
وتعاملت مع الأشياء من خلالها..؟!
فقد علمتني أن التعامل بالحسنى والأخلاق الطيبة إنما هي سذاجة وحماقة تجر على صاحبها الخسارة والفاقة. وأن الكذب في الحديث والنفاق في المعاملة والتلون في المخاطبة إنما هي سياسة وكياسة.
وأن التحايل على الناس وغشهم وسلب ممتلكاتهم نوع من الذكاء والدهاء.
وأن الألفاظ الساقطة والحركات البذيئة إنما هي دعابة ولطافة لا ضير فيها ولا تثريب عليها.
وأن صدق اللهجة وبذل المهجة إنما هو خبال ويجز إلى بال. وأن بذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بالحق إنما هي سلب للحريات وهدر للكرامات وتدخل في حياة الآخرين.
فنشأت- ويا للأسف- ذكياً غير زكي.
وترعرعت- ويا للحسرة- قوياً غير نقي.
وما ذاك إلا لبذرة فاسدة غرست في أرض طاهرة فأنتجت ثمرة كاسدة.
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ويعديهم داء الفساد إذا فســد
يعظم في الدنيا بفضل صلاحه ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما راع غش رعيته فهو في النار))
الدعاء عليه
يا أبتي:
لماذا- يا أبتي- عندما أفعل ما يغضبك، وأجترح ما يسخطك ترفع أكف الضراعة إلى الذي يسمع من دعاه ويجيب من ناداه، فتدعو علي بالويل والثبور وسيئات الأمور، وترجوه أن ينزل بي ما لا ترضاه لأعدى أعدائك، فكيف بأقربهم منك وأحبهم إليك؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات، لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)).
فلعلها- يا أبتي- دعوة منك توافق استجابة من الله فأهلك وأخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ينادي مشفقاً في سنته على أمته فيقول: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم ، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجاب لكم " .
وعليك- يا أتجي- بالدعاء لي آناء الليل وأطراف النهار، في سرك وعلانيتك، في رغبك ورهبك، في عسرك ويسرك، في منشطك ومكرهك، فلعلك- يا أبتي- ترفع يداك، وتذرف عيناك، ويقشعر جلدك ويلين قلبك، ويلهج لسانك، فتقول: يا الله..
فيقول لك من يجيب دعوة الداعي إذا دعاه: لبيك يا عبدي
فتقول: يارب.. ابني.. ثم ابني.. ثم ابني..
فيقول لك المجيب القريب: قد فعلت، فتكتب لي سعادة الدنيا والعقبى. وذلك هو الفوز العظيم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد ودعوة الصائم، ودعوة المسافر".
الخاتمة
.. وفي الختام.. أيها الآباء الكرام:
ها هم أبناؤكم يحملون يراع التذكير ليسطروا على صدر هذه الرسالة ما دار في خلدهم وما احتبس في أعماقهم وما احتوته جوانحهم فيقولون لكم:
يا من تحملتم أمانة عظيمة ومسؤولية جسيمة أبت من حملها السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها ومن تبعاتها..
يا من أعطاكم الله الزينة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (46) سورة الكهف. وابتلاكم بالفتنة {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (28) سورة الأنفال وخصكم بالوصية {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } (11) سورة النساء وحذركم من العداوة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (14) سورة التغابن.
اتقوا الله فينا.. فنحن فلذات أكبادكم.. ومنشأ أصلابكم.. وامتداد أنسابكم.
ونحن أحلام الماضي الغابر، وسعادة الحاضر العابر، وآمال المستقبل السائر.
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض
اتقوا الله فينا.. وربونا على حب الله وخوفه والرجاء فيما عنده ومراقبته والوقوف عند حدوده والإذعان لأوامره والتمسك بدينه.
ربونا على منهج الله.. وأدبونا بآداب وشمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم. عودونا على الطاعة وعلمونا العبادة، وخذوا بحجزنا عن النار وغذونا بالحلال فنحن نصبر على الجوع والعطش ولكن لا نصبر على النار.
ربونا على أن نعيش في الدنيا بمنظار الآخرة فنتزود من ممرنا لمقرنا ومن دنيانا لآخرتنا، وكونوا سلفنا إلى الجنة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (21) سورة الطور
فنكون وإياكم في الجنة في شغل فاكهون على الأرائك ينظرون وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [سورة الصافات الآيات: (180-181) ]
وكتبه أفقر الخلق إلى الخالق:
عبد اللطيف هاجس الغامدي
تغمده الله برحمته وعامله بلطفه
جدة (21468) ص. ب (34416)
إلى لقاء قريب
يا أبتي:
أرادت- أختي- أن تقول شيئاً فتعثرت كلماتها في فمها.. وتبعثرت حروفها على شفتها.. حياء منك وتقديراً لك فاستلت اليراع من غمده، لتغرسه في عمق المحبرة ونقشت على صدر الورق:
يا أبتي:
انتظر مني رسالة..
حب الحياة- ❣ المبدعون ❣
- جائزه تسجيل للعام 10 اعوامجائزه المواضيع المميزه
- عدد الرسائل : 10
الابراج :
احترام القانون :
نقاط : 6000
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 30/09/2010
رد: رسائل من بعض الأبناء إلى بعض الآباء
مميزه تم نشرهاا
كل التقدير ومجمل الامل
كل التقدير ومجمل الامل
ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ
رسالتنا للزوار الكرام : سجل عضويتك اليوم لتصلك رسائلنا لأخر مواضيع الأبحاث ورسائل الماجستير و الدكتورة عبر الايميل بشكل جميل.
♔ اَلَملَكهَ بَلَقَيــس♔- ♔ السمو الملكي ♔
- جائزه تسجيل للعام 10 اعوامجائزه الاعجاباتتاج 100 موضوعتاج المواضيعجائزه المواضيع امميزهعدد المشاركات بالمواضيع المميزهوسام التميزجائزه التميز
- عدد الرسائل : 3256
العمل/الترفيه : /لـآ شَي أوجَع منْ الحَنينْ ..~
الابراج :
الموقع : هوَ يشَبِه السّعادَةَ ؛ كلِ ماَ فكَرت فيَه ابتسَم !*
احترام القانون :
المزاج : ♡༽رفُُقُُآ بًًنِِبًًض قُُلََبًًيََ༼♡
نقاط : 56472
السٌّمعَة : 43
تاريخ التسجيل : 26/02/2008
تعاليق : الحب يزهر إذ التقينا بما يجمعنا لا بما يعجبنا !
رد: رسائل من بعض الأبناء إلى بعض الآباء
اشكرك جزيل الشكر
ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ ღ
إنتبه !
نحن لانود اجباركم على الرد بأى وسيله كانت كاخفاء الروابط حتى يتم الرد اولا وغيرها
من الوسائل المهينة في نظري لشخصية العضو فلا تحبط من قام بتسخير نفسه لكتابة الموضوع ورفع محتوياته..
فلا تبخل وارفع من معناوياته ولن يكلفك مثلما تكلف هو بوضع ما يفيدك فقط اضغط على الرد السريع واكتب شكراً
وأنت المستفيد لأنك ستولد بداخله طاقه لخدمتك كل ما نريد هو ان تفيد وتستفيد بشكل أكثر تحضرا
وشكرا للجميع
محمد جعفر- ♕ المعالي ♕
- جائزه تسجيل للعام 10 اعوامتاج 100 موضوعتاج المواضيععدد المشاركات بالمواضيع المميزهجائزه المواضيع امميزه
- عدد الرسائل : 840
العمل/الترفيه : اخصائي نفسي تربوي
الابراج :
الموقع : فلسطين
احترام القانون :
المزاج : ربنا يسهل
نقاط : 11522
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 18/11/2010
مواضيع مماثلة
» رسائل ماجستير, رسائل دكتوراة في الإدارة جاهزة للتحميل - تحميل مباشر .pdf
» رسائل ماجستير, رسائل دكتوراة في علم الحاسوب جاهزة للتحميل - تحميل مباشر .pdf
» رسائل ماجستير, رسائل دكتوراة في الإدارة جاهزة للتحميل - تحميل مباشر .pdf
» رسائل ماجستير ،رسائل دكتوراه في الصيدلة جاهزة للتحميل.pdf
» رسائل ماجستير ،رسائل دكتوراه في الزراعة والاقتصاد الزراعي .pdf
» رسائل ماجستير, رسائل دكتوراة في علم الحاسوب جاهزة للتحميل - تحميل مباشر .pdf
» رسائل ماجستير, رسائل دكتوراة في الإدارة جاهزة للتحميل - تحميل مباشر .pdf
» رسائل ماجستير ،رسائل دكتوراه في الصيدلة جاهزة للتحميل.pdf
» رسائل ماجستير ،رسائل دكتوراه في الزراعة والاقتصاد الزراعي .pdf
منتـديات مكتـــوب الاستراتيجية للبحث العلمي MAKTOOB :: الابحــاث الأدبيــة والإداريـــة :: رسـائل ماجستـيــر ودكتـــوراة و بـحـوث جـامعيـة الابحــاث الأدبيــة والإداريـــة :: ابحاث التعليم والمعلمين والمناهج
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى