المستشرقون ترجمة د. انيس عبد الخالق محمود
منتـديات مكتـــوب الاستراتيجية للبحث العلمي MAKTOOB :: الابحــــاث التــربـويـــة والقـــانونيـــة والتـــاريخيـــة :: رسـائل ماجستـيــر ودكتـــوراة الابحــــاث التــربـويـــة والحقوقيـــة والتـاريخيــة و بـحـوث جـامعيـة جـاهــزة :: ابحاث التاريخ والاثار
المستشرقون ترجمة د. انيس عبد الخالق محمود
ترجمة
د. انيس عبد الخالق محمود
العراق
مقدمة المترجم
مضى على ترجمة هذا المقال اكثر من عشر سنوات، وكان من المؤمل أن يُنشر في حينه، لولا ظروف تسببت في فقدان مسودة الترجمة الاولى، فقمنا باعإدة الترجمة مجددا خدمةً للباحثين وطلبة الدراسات العليا والمثقفين عامة. والمقال الذي اقدمنا على ترجمته منشورٌ في المجلد الخامس من موسوعة الاسلام (Ecyclopaedia of Islam)، الطبعة الثانية، الصفحات (735-753)، وهو من الاعمال الاكاديمية المتميزة بحق. وفي هذه المقدمة المختصرة لن نتحدث عن اهمية هذا المقال، وانما سنكتفي بتقديم نبذة مختصرة عن مؤلفه البروفيسور جان دي جاك واردنبرغ وابرز اعماله العلمية. ونود الاشارة هنا ايضا الى ان المقال تضمن بين ثناياه الكثير من الاسماء والمصطلحات باللغات اللاتينية، والايطالية، والفرنسية، والالمانية، والروسية وغيرها، فقمنا بتعريبها بإستخدام القواميس المتخصصة المتاحة. ونأمل ان نتمكن من نشر هذه الترجمة في كتيب يضم هوامش توضيحية وقائمة الببلوغرافيا التي وضعها المؤلف في نهاية مقاله لتكون الفائدة اعمّ واشمل. وأخيرا، نأمل ان تلاقي هذه الترجمة استحسان القرّاء الكرام.
المؤلف: سيرته ومؤلفاته
هو العلامة جان جاك واردنبرغ، ولد في هارلم (Haarlem) بهولندا سنة 1930، عالمُ لاهوتٍ وكاتبٌ وعلاّمة بالدراسات الدينية والإسلامية.
درس واردنبرغ علم اللاهوت وفلسفة الظواهر الدينية وتاريخ الاديان في جامعة أمستردام بين سنتي 1949 و 1954، ثم درس اللغة العربية وتاريخ الإسلام في كل من أمستردام، وليدن وباريس. وفي سنة 1961 حصل على شهادة الدكتوراه من أمستردام مع مجموعة من الباحثين في حقل الإسلام. ثم توجه إلى الشرق الأوسط. وبين سنتي 1962-1963 كان يعمل في معهد الدراسات الإسلامية في جامعة مكجيل بمونتريال. وبين سنتي 1964 الى سنة 1968 درَّس اللغة العربية والتاريخ الإسلامي في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، ومن 1968 الى سنة 1987 كان يدرِّس علم الظواهر الدينية والدراسات الإسلامية في جامعة أوترخت، والدراسات الدينية في لوزان من سنة 1987 – 1995، حيث إستقر بعد تقاعده.
إنصبت إهتمامات واردنبرغ العلمية الرئيسة على دراسة العلاقة بين المسيحية والإسلام في الماضي والحاضر، وعلى القضايا المنهجية والنظرية الأخرى في الدين والعلوم الإسلامية. وهو ناقد حاد لعلم الظواهر الدينية التقليدية القديمة. وصف أثر الدين في العلم بدقة وثبّت الحقائق المترتبة على ذلك. وطور مفهوم علم تداخل الظواهر.
علم تداخل الظواهر لدى واردنبرغ
تعد صياغة واردنبرغ لعلم دراسة الظواهر الدينية، التي تسمى علم تداخل الظواهر أو الظواهر المتداخلة، نقيضا للمناهج السابقة لمنطق الظواهر الدينية، لا عن طريق الجوهر العام للظاهرة الدينية، وإنما بمحاولته تذويت المقاصد والنيات، بظاهرة متصلة بالتحليل.
وتسمح نظرية واردنبرغ في فهم الظواهر الدينية والثقافية إدراك الحدود بين ما هو ديني و غير ديني على أساس كل حالة تخضع للدرس. وبمقتضى نظريته يمكن ان يُستخدم هذا في سياقات مختلفة يفهم كل منها الآخر، ويبقى المعيار تقييم الفرد. ولم يعد ما يسمى علم الظواهر الدينية يُعنى بقضايا الدين او الظاهرة الدينية خارج إطار الزمان والمكان، وإنما يبحث عن تفسيرات موضوعية داخل الجوهر في إطار زماني ومكاني محدد.
مؤلفاته
مؤلفات واردنبرغ كثيرة وبلغات متعددة من اهمها: (بالانكليزية) (1) الإسلام والعلوم الدينية، 1998؛ (2) الإسلام والغرب وجها لوجه: فيما يخص تاريخ الاديان، 1998؛ (3) المنهجان التقليديان لدراسة الدين، 1973/1974؛ (4) و دينٌ وأديان، 1986؛ المناهج التقليدية لدراسة الدين: أهداف، وأساليب ونظريات البحث، جزءان 1973/1974، وطبعة ورقية، 1999؛ (5) إنعكاسات على دراسة الدين: يتضمن مقالا عن مؤلَّف جيرادوس فان در لييو، 1978؛ (6) الإسلام والمسيحية: تصورات مشتركة منذ منتصف القرن العشرين؛ (7) التصورات الإسلامية عن الاديان الاخرى: مسحٌ تاريخي، 1999؛ (8) الإسلام: بين الاساس والمثالية والحقيقة (خمس طبعات من سنة 1984 حتى سنة 2000)، طبعة اولى بالهولندية بعنوان تصورات إسلامية ـ مسيحية عن الحوار اليوم: التجارب والتوقعات، 2002. و(بالفرنسية) (9) الإسلام في مرآة الغرب، لاهاي ـ باريس، 1961، ط3 سنة 1970؛ (10) الجامعات في العالم العربي اليوم، جزءان، 1966؛ (11) الإسلام ديناً، 1989. و(بالالمانية) (12) العلاقات الإسلامية ـ المسيحية: إنحراف تاريخي، 1993؛ (13) الإسلام: تصورات تاريخية، واجتماعية، وسياسية، 2002. و(بالإيطالية) (14) توقعات للدراسات الدينية، 1993؛ (15) المسلمون في المجتمع الاوربي، تورينو، 1994. فضلا عن العديد من البحوث المنشورة في الدوريات العلمية الرصينة لا يسمح المجال بذكرها هنا.
المستشرقون (Orientalists): هم أولئك الذين يدرسون الشرق.
أ. الإصطلاح اللغوي
كلمة (مستشرق) ”Mustashrik“ هي إسم الفاعل للصيغة العاشرة للجذر (ش/ر/ق)، وتعني ”أولئك الذين يدرسون الشرق/ المشرق ويصبون اليه“، أو ”أولئك الذين يصبحون (مثل) الشرقيين/ المشرقيين“، فكلمتا ”مشرق“ و ”مشرقيون“(Orient / Orientals) تنحيان لأن تكون لهما دلالة معنوية أكثر نوعا ما من كلمتي ”الشرق“ و ”الشرقيين“ (East / Easterns). وبالنتيجة، فإن كلمة ”مستشرقون“ (Mustashrikūn) تحمل معنىً أوسع مما يحمله المصطلح الغربي الحالي ”أورينتالستس“ (Orientalists)، أي ”العلماء المتضلعون بالدراسات الشرقية“. وقد إستُخدم مصطلح ”المستشرق“ بالإنكليزية أول مرة سنة 1779؛ وبالفرنسية سنة 1799، وفيما بعد أصبح مصطلح ”الإستشراق“ (اورينتالزم) (Orientalism) المعنى الأوسع ﻠ ”التوجه نحو الثقافة الشرقية“.
وبإستخدامه في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان لمصطلح ”المستشرق“ معنىً ثقافيا وعلميا على حد سواء. فالمستشرقون الثقافيون، بضمنهم الرسامون والكتّاب، هم أولئك الذين يستمدون إلهامهم من الشرق. أما المستشرقون العلميون فهم المتخصصون باللغات والثقافات الشرقية، لتمييزهم عن ”الكلاسيكيين“، المتخصصين باللغات والثقافات الكلاسيكية (اللاتينية واليونانية). ونظرا لأن مثل هذا المستشرق أكثر من مجرد متخصص باللغات، فقد كان إنسانيا يُفترض إنه يمتلك معرفة حقيقية معمقة لواحدة أو أكثر من ثقافات المشرق ويكرس نفسه لدراسة اللغات والآداب الشرقية في الماضي والحاضر، فضلا عن المعالم الثقافية الأخرى في ميداني الأدب والآثار، ويُفترض كذلك إن بحثه عن المعرفة الرصينة يميزه عن غيره من المستشرقين الثقافيين، الذين كانوا أنصارا متحمسين للمشرق.
وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان مصطلح ”المشرق“ (Orient) يمثل الشرق الأدنى تحديدا، ولكنه كان يتضمن ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية و، بطريقة التعبير الفرنسية، شمالي أفريقيا أيضا. وكان الشرق ”القديم“ يعني الشرق الأدنى حتى إنتشار المسيحية في المنطقة، التي أدخلت حقبة الشرق ”المسيحي“، وأعقبتها حقبة الشرق ”المسلم“ حينما إعتنقت المنطقةُ الإسلام. وخلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، توسع نطاق مفهوم ”المشرق“ ليشمل آسيا كلها، محتفظا بمعنى الثقافات غير المعروفة إلى حد بعيد التي تتحدى الرجل الغربي لاستكشافها. وحتى بداية الحرب العالمية الثانية، كان الإستشراق يدل في معناه الأوسع على اتجاه ثقافي محدد في أوربا وأمريكا الشمالية، وبمعناه الضيق كان يعني دراسات شرقية تجريبية.
عُقد أول مؤتمر عالمي للمستشرقين في باريس سنة 1873، وفي سنة 1951 تم تأسيس إتحاد عالمي للمستشرقين. ومنذ مؤتمر موسكو في سنة 1960 كان المصطلح يتعرض للإعتراض لأسباب عدة، وبعد المؤتمر الذي عُقد في باريس تغيرت أسماء المؤتمرات. ومن المؤكد إن الثقافات الآسيوية كانت تعني اﻠ ”شرق“ (East) الوحيد عندما كان يُنظر إليها من أوربا، وبما إن تلك الثقافات أخذت تُدرس الآن من جانب متخصصين قادمين من المناطق نفسها ومن أماكن أخرى، فإن مصطلح المشرق (Orient) أصبح الآن مصطلحا مجازيا إلى حد كبير. وفي الوقت الحاضر ثمة توجه للحديث عن ”العلوم الإنسانية في آسيا وشمالي أفريقيا“، وطوبق العلماء المستشرقون الآن بثقافتهم، وبحقبة ومنطقة تخصصهم، وبدراستهم المحددة. ولو أخذنا بنظر الإعتبار طبيعة هذه الموسوعة فإننا نعني بمصطلح ”مستشرقون“ هنا العلماء الثقاة في الإسلام، وفي المجتمعات والثقافات الإسلامية تحديدا. والدراسات المشرقية هنا تمثل ذلك الفرع من فروع المعرفة المكرس لدراسة الإسلام والمجتمعات والثقافات الإسلامية تحديدا، بمعنى أن نقول ”الدراسات الإسلامية“ بالمعنى الأوسع للكلمة.
ومنذ نهاية القرن المنصرم (التاسع عشر ـ المترجم) أخذ مفهوم ”المستشرق“ في مجال العالم الإسلامي وفي أماكن أخرى بالتغير في أوجه عدة. فبما إن المستشرقين كانوا بموجب التعريف السابق هم العلماء الغربيون غير المسلمين في الإسلام، فإن هناك الآن علماء غربيون مسلمون، وعلماء غير مسلمين خارج الغرب، وعلماء مسلمون في هذا الحقل في الدول الإسلامية وخارجها على حد سواء. وحيث إن الغرب والعالم الإسلامي كانا منطقتين جغرافيتين متمايزتين، فإنهما الآن تداخلا مع بعضهما البعض وأصبحت الجماعات الإسلامية المختلفة تعيش في بلدان غربية. وفي الوقت الحاضر ينبغي أن لا يُفهم إن المستشرقين في الدراسات الإسلامية هم كل أولئك العلماء المنصفين عن الإسلام والجماعات والثقافات الإسلامية، سواءً كانوا غربيين أم غير غربيين، من أصل مسلم أو غير مسلم، سواءً كانوا يعملون في الغرب أو في مكان آخر، إذ كان التعاون بين العلماء في هذا الميدان يحصل خارج إطار الإختلافات في العقيدة أو البلد أو الأصل أو مكان العمل. ويبدو إن الاختلاف الوحيد هو إن العلماء المسلمين أكثر إدراكا للآثار المباشرة لبحثهمعن المجتمع الإسلامي.
أما التغير الآخر في مفهوم ”المستشرق“ فيتعلق بمجال التخصص. ففي السابق كان كل المستشرقين علماء محترفين متخصصين في اللغات الشرقية تقريبا، سواءً كان لديهم إهتمام تاريخي أو لم يكن. وكانت هذه طريقة صارمة في الدراسة، لها مدرستها الخاصة ومتطلباتها في البحث، ومن النادر أن تتيح مجالا لنماذج جديدة في البحث. على أية حال، فخلال العقود القليلة الماضية بدأ الباحثون من فروع المعرفة الأخرى ينهمكون في البحث في الجماعات والثقافات الإسلامية على نحو متزايد. وكان من ضمنهم مؤرخون إجتماعيون، وانثروبولوجيون، وسوسيولوجيون، وباحثون آخرون في العلوم الإجتماعية، فضلا عن متخصصين في ميادين الأدب والفنون والدين. وفي هذا المقال فإن مصطلح ”مستشرق“، عندما يُستخدم للماضي، فهويتضمن أيضا أمثلة من فروع المعرفة الأخرى التي تُسهم في معرفة المجتمعات والثقافات الإسلامية.
وقد تغيرت الوظيفة الإجتماعية للمستشرقين أيضا. إذ أصبح المستشرقون، أكثر مما في السابق، خبراء داخل المجتمعات الغربية في جوانب معينة من الإسلام والمجتمعات والثقافات الإسلامية. وهم يؤدون أدوارا تراسلية معينة في المجتمع؛ فإلى جانب البحث والتدريس فهم يوفرون معلومات أنّى تطلبت الحاجة إليها ويتوسطون في الإتصال عند الضرورة. وقد تُعهد بهم، في بعض الحالات، بعض المهام الخاصة. وأكثر مما كان في السابق، أخذ المجتمع يفرض عليهم ضغطا لجعل خبرتهم ذات صلة بالمجتمع، وتوجب عليهم أن يستجيبوا، أكثر مما سبق، لمتطلبات المؤسسات في مجتمعهم.
وإذا كان للمستشرقين معرفة مبنية على خبرة، فقد حملوا آراءً معينة بشأن الإسلام أيضا؛ وعارضوا أحيانا أفكارا وممارسات إسلامية معينة، وحاولوا نشر أفكارهم وممارساتهم بين المسلمين في أحيان أخرى، وفي كثير من الحالات كان لديهم أصدقاءٌ شخصيون منهم. ومثل هذه النشاطات والإرتباطات الشخصية للمستشرقين ينبغي أن يُنظر إليها ويحكم عليها ضمن الإطار الخاص لمجتمعهم وضمن إطار العلاقات بين ذلك المجتمع ومجتمعات إسلامية محددة. ويبقى بحث المستشرق في حالة تعمق إلى الحد الذي يبلغ فيه البحث عن المعرفة درجة الأولوية. ولكن، إلى جانب هذه المعرفة العلمية هناك دائما هامش كبير من الأفكار الشخصية والإعتبارات والتوجهات الخاصة بالمستشرقين أنفسهم، فنقلوها إلى مجاميع خاصة في مجتمعهم. وهذا الجانب غير الأكاديمي الإنساني الثقافي للمستشرقين قد تحابك مع عملهم، وهو لا يخلو من فائدة. فمن الجدير بالإهتمام، مثلا، أن نعرف إلى أي مدى كان هؤلاء باحثين متخصصين في المقام الأول، ولديهم إلمامة بسيطة عن المضامين السياسية أو الإجتماعية التي يمكن أن يتضمنها عملهم سواءً لمجتمعهم أو للمجتمع الذي يدرسون عنه. ومثل غيرهم من الباحثين، كانوا غالبا عديمي الحيلة إزاء سوء الإستخدام المحتمل لنتائج عملهم. فحقيقة وجود عالِم في حقل الإسلام لا يعني امتلاكه نظرة ثاقبة لإدراك مشكلات العالم الثالث الحالي. وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الباحثون حريصين على تمييز الأساليب المختلفة التي قُدِّم بها الإسلام آيديولوجيا أو إستُغل به سياسيا لمصالح مختلفة، سواءً كانت تخص المسلمين أو غير المسلمين. فهم ليسوا مدركين أساسا لحالات التوتر الإجتماعي التي إستُغل بها الإسلام بصفته داعية حرب، أو إنموذجا لبرنامج عمل إجتماعي أو سياسي، أو،بإختصار، صيغة فاضلة.
وللعمل الذي قام به المستشرقون، قبل أية دراسة للمجتمعات والثقافات الأخرى في الماضي والحاضر، أبعاد مختلفة، هي: (1) الخبرة الفنية المكتسبة عن طريق المعالجة العلمية غير المتحيزة للمعلومات الواقعية؛ (2) موقف الباحث من موضوع بحثه وإنغماسه المحتمل فيه أثناء عمله؛ (3) الدوافع المختلفة (عاطفية، وإنسانية، ودينية) والأهداف التي تُنفذ من أجلها تلك الدراسات، من ضمنها الأسباب الخاصة التي يتقيد بها الباحث، وتجاربه، وإهتماماته وإلتزاماته الشخصية ذات العلاقة بعمله؛ (4) التركيبة الإجتماعية التي ينفذ بها البحث، وعلاقته بمجتمعات إسلامية محددة؛ وهذا يتضمن تنظيمه وتمويله ووضعه المؤسسي؛ (5) وأخيرا المدى الذي يُنشئ فيه الباحث جسرا بين ثقافتين أو أكثر، لينمي مسافةً عن مجتمعه ونزاهةً متزايدة في تقييماته وأحكامه على كل مجتمع.
ويبقى التساؤل: إلى أي مدى كان هناك توافق مباشر بين الدور الذي أناطهُ المجتمع بالمستشرقين ونوع المعرفة والأفكار العامة التي طورها أولئك الأخيرون بشأن الإسلام والشعوب الإسلامية. أو لنقُل، أين طوروا معرفةً وافكاراً بعيدا عن مجتمعهم وأين خضعوا لأفكاره وسلوكه الحالي؟ أين وكيف جعلوا الأساليب والقيم الشائعة في المجتمع الغربي نسبية وإنتقدوها؟ لقد أنشأ بعض المستشرقين، بقصد أو من دون قصد، حاجزا بين مجتمعهم وبين الإسلام والشعوب الإسلامية عن طريق وصف الإسلام وصفا مختلفا كليا، على إنه خطر أو هدف أو مهمة. في حين أنشأ البعض الآخر منهم، بوعي أو من دون وعي، تقاربا بين مجتمعهم وبين الإسلام والشعوب الإسلامية عن طريق وصف طبيعة الأشياء التي يشترك بها البشر، والمجتمعات، والثقافات، مقيمين إتصالا ومتعلمين من بعضهم البعض كأمر بديهي. والأكثر مما تم تقويمه عموما، إن الأصالة في مواقف معظم المستشرقين أقل بكثير مما يُعتقد عموما، إذ كانوا مجرد متحدثين بلسان مجتمعاتهم في تقييمهم للبُعد بين الإسلام والغرب. وعلى ما يبدو، فيما عدا رغبتهم في دراسة الإسلام والمجتمعات والثقافات الإسلامية على نحو مستقل عن الأفكار والممارسات الحالية (وفي بعض الأحيان ضدها على نحو ملفت للنظر)، فإن تقييماتهم عن الإسلام كانت معتمدة بقوة على الأفكار والقيم السائدة في مجتمعهم أو محيطهم.
[/center]
قديسة المطر- ♛ الفخامة ♛
- جائزه تسجيل للعام 10 اعوامتاج 100 موضوعجائزه عدد النقاطتاج المواضيععدد المشاركات بالمواضيع المميزهوسام التميزجائزة الاعضاء المبدعونجائزه المواضيع امميزه
- عدد الرسائل : 1133
العمل/الترفيه : الفكر..
الابراج :
الموقع : https://stst.yoo7.com
احترام القانون :
المزاج : تذكرني بكــره
نقاط : 17000
السٌّمعَة : 13
تاريخ التسجيل : 06/07/2009
تعاليق : يغــار [ قلبـي ] كثر ماتحبك الناس
ومن طيبك أعذر كل منهو ][ يحبـك ][
مدام كل [ الناس ] بـك ترفع الراس
أنا أول أنسان وقف ][ يفتخر بك ][
رد: المستشرقون ترجمة د. انيس عبد الخالق محمود
عندما قام العرب بفتوحاتهم في جنوبي أوربا، وفي الجنوب الغربي منها خلال القرن الثامن وأوائل القرن التاسع (الميلادي)، وجد عالمان نفسيهما في تعارض مع بعضهما البعض. فلقرون عدة كانا يعرّفان نفسيهما بصفتيهما العالمين المسيحي والإسلامي طبقا للمكان الذي تكمن فيه السلطة السياسية. وقد أسفرت الفتوحات التركية للأراضي الناطقة بالعربية (بإستثناء المغرب)، والأناضول، وجنوب شرقي أوربا حتى منتصف القرن السادس عشر عن خلق وضع مشابه. ومع ذلك، ففي هذه الحالة لم يكن العالمان اللذان واجها بعضهما البعض معرّفين على نحو متزايد بصفتهما عالمينمسيحي وإسلامي فحسب، وإنما بصفتهما ممتلكات أوربية و”شرقية“ أيضا، وهذا الشرق يبدأ من حدود الحكم العثماني.
وتاريخ الصِدام بين هذين العالمين وتوابعهما، لاسيما تلك الواقعة حول البحر المتوسط والبلقان (وإلى مسافة أبعد نحو الشرق، ضمن حدود الإمبراطورية الروسية) تاريخٌ معقد؛ إذ إن حدود هذين العالمين شهدت أنواعا عدة من التداخل. وهنا ينبغي علينا أن نتعامل مع مظهر التداخل الثقافي فقط: بمعنى تطور المعرفة التي إكتسبها المتخصصونالأوربيون عن العالم ممثلةً بالإسلام، بضمنها اللغتين العربية والتركية، قبل القرن التاسع عشر، عندما أصبحت الدراسات الإسلامية راسخة جدا بصفتها حقلا ثابتا من حقول المعرفة في الجامعات الأوربية. فما هي المعرفة التي تم الحصول عليها عن الإسلام، وما الذي حرّك البحث فيها، وما هي العقبات الرئيسة التي كان ينبغي التغلب عليها، وما هو المجال الثقافي الأوربي الذي تطورت ضمنه هذه المعرفة؟
قديسة المطر- ♛ الفخامة ♛
- جائزه تسجيل للعام 10 اعوامتاج 100 موضوعجائزه عدد النقاطتاج المواضيععدد المشاركات بالمواضيع المميزهوسام التميزجائزة الاعضاء المبدعونجائزه المواضيع امميزه
- عدد الرسائل : 1133
العمل/الترفيه : الفكر..
الابراج :
الموقع : https://stst.yoo7.com
احترام القانون :
المزاج : تذكرني بكــره
نقاط : 17000
السٌّمعَة : 13
تاريخ التسجيل : 06/07/2009
تعاليق : يغــار [ قلبـي ] كثر ماتحبك الناس
ومن طيبك أعذر كل منهو ][ يحبـك ][
مدام كل [ الناس ] بـك ترفع الراس
أنا أول أنسان وقف ][ يفتخر بك ][
رد: المستشرقون ترجمة د. انيس عبد الخالق محمود
حتى بداية الحركة الصليبية في النصف الثاني من القرن الحادي عشر بفتوحات طليطلة سنة 1085، وصقلية سنة 1091، والقدس سنة 1099، كانت المعرفة عن الإسلام والأراضي الإسلامية في أوربا محدودة. إذ كانت مصادرها مبعثرة: تقارير عرضية من المسيحيين الذين يعيشون في المشرق (الليفانت) (Levant)، أو من إسبانيا الخاضعة للهيمنة الإسلامية، والمواقف العقائدية والنموذجية للإسلام التي كانت تُرسل إلى كنيسة روما عن تعاملات المسلمين مع المسيحيين خارج سلطة الكنيسة الرومانية أو في ظلها. وكانت هذه المعرفة محدودة جدا, وكانت مختلطة بعوامل الخيال الديني وملونة بمحاولات لإظهار إن المسلمين كانوا يشكلون خطرا على أوربا، والإسلام يشكل خطرا على المسيحية، لا من الناحية السياسية فحسب وإنما من الناحية الدينية أيضا. والدين الإسلامي لم يكن ذلك الدين الحق: ففي أفضل الأحوال ما هو إلا مذهب من مذاهب الدين المسيحي، ولكن من المؤكد إنه ليس مستندا إلى الوحي مثل المسيحية.
إسبانيا
جاءت أولى وسائل العمل لدراسة اللغة العربية في أوربا المعروفة لدينا من إسبانيا، وهي عبارة عن مؤلّفين: الأول هو ”المعجم اللاتيني ـ العربي“ الصادر خلال القرن الثاني عشر (الذي يضم نحو أحد عشر ألف كلمة رئيسة لاتينية ثلثها غير مترجم)، والثاني كتاب ”مفردات بالعربية“، الصادر خلال القرن الثالث عشر (الذي يضم نحو أربعة آلاف كلمة لاتينية رئيسة ونحو ثمانية آلاف كلمة مفهرسة عربية). ولابد أن يكون هذان الكتابان قد خدما هدف الترجمة من اللاتينية إلى العربية إلى حد كبير لأغراض العمل التبشيري بين المسلمين في المناطق التي آلت إلى الحكم المسيحي في أعقاب حروب الإسترداد.
وردت أولى المعلومات المدونة بشأن الإسلام ومحمد عن طريق المدعو موزس السفاردي (1062 ـ 1110) الذي كانت له معرفة جيدة بالمؤلفات التنجيمية العربية. وفي سنة 1106 تحول إلى المسيحية وإتخذ إسم بيدرو دي الفونسو، وبالنتيجة كان يتنقل إلى إنكلترا حيث أصبح الطبيب الشخصي للملك. وهذه المعلومات متضمنة في المجلد الخامس من كتابه المعنون ”حوار حول الديانة اليهودية“، مَين، لوحة 157. ومع ذلك، لا نعرف إلا القليل عن هذا المؤلف.
وثمة معلومات أكثر رصانة مضمّنة في ما يسمى ”مجموعة طليطلة“. فبعد الإستيلاء على طليطلة سنة 1085، اُختيرت هذه المدينة لتكون المقر الرئيس لكرسي الكنيسة الرومانية في إسبانيا (1088). وبعد بضعة عقود أصبحت مركز ترجمة النصوص العلمية والفلسفية العربية إلى اللاتينية، بجهود رئيس الأساقفة دون رايموندو تحديدا (تولى رئاسة الأسقفية ما بين 1125-1151). وعندما زار بيتر المبجل (1094-1156)، رئيس الدير البندكتي في كلني، إسبانيا في سنة 1142، ربما ناقش الرجلان مشروع ترجمة بعض النصوص الإسلامية من العربية إلى اللاتينية. وفي أي حال، فوّض بيتر المبجل اثنين من العلماء العاملين، بأمره، على تأليف كتاب عن علم الفلك عند العرب، وهما روبرت الكيتوني (جيستر) وهيرمان الدلماشي، لترجمة خمسة نصوص إسلامية، من ضمنها القرآن، إلى اللاتينية؛ ونجح روبرت في الإنتهاء من ترجمة القران في سنة 1143. وكتب بيتر المبجل نصّين فضلا عن تلك الترجمات، أكثرها وصفيةً كتابه ”أسمى جزء يتمسك به العرب المسلمون“، وكتابه الإنفعالي”الكامل في صحائف الهرطقة الإسلامية“. وشكل هذان النصّان معا ما يسمى ”مجموعة طليطلة“.
ويختلف بيتر المبجل، المعروف بموقفه المناوئ لليهود مقارنةً مع بيرنارد من كلايرفاوكس، فيما يخص الموقف المُتخذ تجاه المسلمين أيضا. إذ كان بيرنارد يدعو بقوة لحملة صليبية ثانية، في حين كان بيتر يعتقد إن العمل التبشيري، وليس الحرب، هو الذي سيحقق النصر على المسلمين. ولكن من أجل مقاتلة الإسلام لابد للمرء من معرفته، وكان هذا هو السبب الذي دفعه الى أن يأمر بجعل النصوص الأصلية العربية متاحة باللاتينية. وكانت ترجمة روبرت الكيتوني للقرآن قد طُبعت في بازل سنة 1543 (1550) بفضل جهود ببلياندر.
كان تعايش ثلاث ديانات توحيدية في إسبانيا الوسيطة يعني إن المفكرين المتمسكين بدين واحد كانوا بحاجة لإمتلاك معرفة عن الديانتين الأخريين، لا لكونها مطلبا من مطالب الثقافة فحسب، وإنما لكونها شرطا من شروط أي إدّعاء بالتفوق والأولوية لديانتهم أيضا. وقد كتب كل من إبن حزم (994-1046) في ”كتاب الفصل“، ويهودا هالفي (1085-1143) في ”الخزري“(1140) من وجهتي نظر إسلامية ويهودية. وعبّر كل من بيتر المبجل في كتابه ”الكامل في صحائف الهرطقة الإسلامية“ ورايموند مارتن (1230-1315) في كتابه ”الحرب الأولى المناوئة للإسلام واليهودية“ (سنة 1278)، ورايموند لول (1231-1315) في كتابيه ”الكامل في الوثنية وحكمة القبيلة“، و”الكامل في التترية والمسيحية“، وأخيرا ريكولدو دا مونت كروس (توفي سنة 1321) في كتابه ”جدل ضد المسلمين والقرآن“ أو ”إنحراف القرآن“ و”كُتيب إلى الامم الشرقية“ للتعبير عن وجهة نظر مسيحية. ومع غيرهم من مؤلفين أقل شأنا، قدموا وفرةً من الكتابات المضادة للإسلام التي كانت، مع ذلك، تضلل المعلومات المتزايدة عن الإسلام. ولم يكن رايموند لول، الذي يُطلق عليه أحيانا مؤسس الإستشراق الغربي، ذا موهبة دينية فحسب، وإنما كان ذا مقدرة فلسفية وعلمية وشعرية خلاّقة أيضا. ولرغبته في إظهار الحقيقة المسيحية للمسلمين عن طريق المناقشة السلمية والحجة العقلية، أسس مدرسة للغة العربية للمبشرين المسيحيين المستقبليين في ميرامار في مايورقا، التي إستمرت بالعمل من سنة 1276 حتى سنة 1294. وتمأسست دراسة اللغة العربية بطريقة أكثر نظامية عندما أكد مجمع فيّنا سنة 1311 في توصيته على وجوب تعيين إستاذين إثنين لتعليم اللغات الشرقية، أي اليونانية والعبرية، والسريانية والعربية، وأول إثنتين منها أكثرها أهمية، في كل جامعة من الجامعات الأوربية الخمس (روما، وبولونا، وباريس، واوكسفورد، وسالامانكا). ومع ذلك، لم يكن عدد الذين يجيدون اللغة العربية في أوربا خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر ليتجاوز عشرين شخصا.
دور الكنيسة الرومانية في أوربا بخصوص الإسلام
نشأت كل هذه الجهود للحصول على معرفة أفضل عن الإسلام في الكنيسة الرومانية، ولاسيما أنظمة الكلاونك البندكتية، والأنظمة الدومينيكانية والفرنسيسكانية. وبما إن واحدا من أهم المواضيع في الصِدام بين العالمين المسيحي والإسلامي، التي ذُكرت في البداية، هو العلاقة بين الديانتين المسيحية والإسلامية، فقد أثرت وجهات نظر عن هذه العلاقة الحقيقية، على نحو كبير، في الطريقة التي يتمكن بموجبها القادمون من هذين العالمين من إدراك مغزى الصِدامات بينهم، وعقلنتها من حيث ديانتيهم.
فيما يخص الحركة الصليبية التي ابتدأت في النصف الثاني من القرن الحادي عشر في كل من إسبانيا، وصقلية، وباقي أوربا الغربية (مع دعوة أوربان الثاني في سنة 1096)، ظهرت في أوربا صورة للإسلام بصفته مناوئا كبيرا للمسيحية. وقد وصف ويليام مونتغمري واط المظاهر الأربعة الآتية لهذه الصورة في كتابه (أثر الإسلام في أوربا، أدنبرة، 1972، ص 73) كما يأتي: ”(أ) إن الدين الإسلامي إكذوبة وتحريف متعمد للحقيقة؛ (ب) إنه دين للعنف والسيف؛ (ﺟ) إنه دين للإنغماس في الملذات؛ و (د) إن محمدا عدوٌ للمسيحية“.
إن المؤلف يتحدث هنا صراحةً عن صورة ”مشوّهة“ للإسلام، وهي صورة حللها بدقة نورمان دانييل في كتابه (الإسلام والغرب، أدنبرة، 1960). ومن المنصف أن نضيف إن التحسينات الحقيقية في المعرفة عن الإسلام التي إكتسبها المؤلفان المشار إليهما في أعلاه بقيت دائما ضمن حدود المظاهر الاربعة للصورة عن الإسلام التي ذُكرت للتو، وأقرتها الكنيسة الرومانية وأيدتها حركة الإصلاح الديني فيما بعد.
وعلى المستوى الشعبي، كان محمد وإدعاءاته بالنبوة، والقرآن وبعض المسحات الثقافيةللمجتمع العربي الإسلامي، مثل تعدد الزوجات، موضع سخرية. أما على المستوى الآيديولوجي فقد صوّر الإسلام بأنه نظام متماسك من معتقدات زائفة، وتركيبة آيديولوجية عدائية. وكلا المستويين معا شجعا التصور الجمعي الديني لمعاداة الإسلام التي تسير حركة معاداة اليهودية بالتوازي معها. وربما كانت الكنيسة قد أكدت هويتها تجاه المسلمين واليهود بهذه الطريقة مثلما فعلت قبل مدة طويلة ضد الغنوصيين والوثنيين في القرون الأولى، وربما كانت أوربا قد سعت الى جوهرها ووجدتها، ولكن نستطيع أن نؤكد أيضا إن المسيحيين الأوربيين كانوا مزودين بقضية خاطئة وبوسائل خاطئة. وفي أي حال من الأحوال، فإن الآيديولوجية الصليبية، بمراكزها، ودعايتها، وجهودها التبشيرية المستندة إلى صورة مشوهة عن الإسلام لم تعمل سوى على تأسيس إكبر العقبات أمام المعرفة الحقيقية عن الإسلام والمجتمعات الإسلامية. ففي إسبانيا أسفر التزامن المسيحي الوسيط والمواقف الضمنية، المدعومة من دواوين التحقيق، عن مأساة إنسانية تمثلت بإزاحة الإسلام واليهودية كليهما خلال ثلاثة قرون بعد الإنتصارات العسكرية التي تحققت خلال القرن الثالث عشر بقيادة الملوك المسيحيين. وقد وُضع كل من اليهود (في سنة 1492) والمسلمون (في سنة 1502) أمام خيارين إما التعميد أو الطرد، وهو الحل الأخير في ذلك الوقت. وقد سُوّغ هذا العمل السياسي آيديولوجيا عن طريق تصوير الإسلام واليهودية تصويرا مشوها وعن طريق مزاعم مطلقة للكنيسة ومؤسساتها، تم تهيأتها لاهوتيا عن طريق كتاب القديس أوغسطين المعنون ”مدينة الله“، وكتاب آنزيلم المعنون ”لماذا الله أولي“، وكتاب توما الاكويني المعنون ”اعلى جزء ضد الوثنية“.
العلوم والفلسفة العربية
وفي إسبانيا أيضا تطور نمط آخر من الدراسات وتم إكتساب نوع آخر من المعرفة التي يمكن أن تسمى على نحو أكثر دقة الرائدة للدراسات الإستشراقية بالمعنى الحديث للكلمة. كان ذلك هو نشاط الترجمة الذي بدأ في طليطلة بعد إحتلالها سنة 1085، بتشجيع من دون رايموند المذكور أعلاه. وكان هذا النشاط معنيا بالدرجة الأساس بترجمة النصوص العلمية والفلسفية المطلوبة في أوربا من العربية إلى اللاتينية. وكانت هذه إما ترجمات لنصوص فلسفية، أو علمية، أو طبية يونانية (مثل أرسطوطاليس في الترجمة العربية)، أو نصوص، من ضمنها تعليقات، وضعها مؤلفون مسلمون (مثل ابن سينا، 980-1037الذي أصبح مؤلّفه معروفا في أوربا (سنة 1180)(. وقد كرست مجموعة من المترجمين الباحثين أنفسهم لترجمة هذا المؤلّف لمدة تزيد عن قرنين، وكان بعضهم من خارج إسبانيا؛ وهنا مارس الباحثون اليهود دورا مشابها للدور الذي مارسه سابقا الباحثون النساطرة في نشاط الترجمة خلال القرنين التاسع العاشر الميلاديين في بغداد من السريانية(اليونانية) إلى العربية.
كان القادة البارزون لحركة الترجمة في القرن الثاني عشر كل من دومينيكو غونزاليز والعلاّمة الإيطالي غزير الإنتاج جيرارد الكريموني (1117-1187) الذي يُقال إنه المسؤول عن ترجمة ما يزيد عن سبعين مؤلّفا باللغة العربية. ومن اليهود البارزين العاملين في حركة الترجمة إبراهام بن عزرا (1089-1167). وفي القرن الثالث عشر تحديدا كانت الأعمال الفلسفية تترجم، إلى حد ما، تُوظف أساسا لرسائل التبريرات الكبرى للمسيحية التي كُتبت في ذلك الوقت، وكانت تحفز، إلى حد ما، الجدل المتزايد بين المفكرين المسيحيين بشأن العلاقة بين الدين والعقل. وقد إشتهر في تلك الترجمات الفلسفية مترجمان كانا يعملان في خدمة الإمبراطور فردريك الثاني (حكم 1215-1250)، وهما: ميشيل سكوتوس (1200-1236) وجاكوب اناتولي (1230-1250). وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر إشتهرت أسماء كل من هيرمانوس أليمانوس وموزس بن طبّون (1240-1283)، وكان الأخير يعمل في سوريا ـ فلسطين. وفي إسبانيا كان الملك العظيم الفونسو العاشر ملك قشتالة، الفونسو ايل سابيو (1252-1284)، هو مَن فوّض عمل الترجمة وأسس بضعة مؤسسات للمعارف المتقدمة.
كان أثر الفلسفة العربية في أوربا خلال القرن الثالث عشر حالة ”إستشراق“ بحد ذاته. إذ قام بعض الفلاسفة الأوربيين بدراسته وإقتباسه، امثال كل من: روجر بيكون (1214-1292) في كتابه ”الكتاب الأكبر“ (وقد عالج الأديان المختلفة في الجزء الرابع من كتابة المعنون ”فلسفة الأخلاق“)، وروبرت غروسيتيست (توفي سنة 1253) من المدرسة الافلاطونية، وألبيرتوس ماغنوس (1206-1280)، وتوما الاكويني (1226-1274) من المدرسة الارسطية، والرشدي اللاتيني سيغر البرابانتي (1235-1282). وبعد كثير من الجدل حرّم إيتينيه تيمبير أسقف باريس الفلسفة الرشدية اللاتينية أخيرا في سنة 1277.
صقلية، وسوريا ـ فلسطين، وأوربا حتى سنة 1500
إن الإستشراق بمعناه الأوسع، واستطعام الثقافة الشرقية والرغبة في معرفتها وإستلهام القيم منها، لم يظهرا في إسبانيا، حيث كانت الكنيسة الرومانية تفرض مؤسساتها وتعاليمها بالقوة، وإنما ظهر في أماكن أخرى للصِدام بين العالمين المسيحي والإسلامي. فقد أصبحت صقلية، حيث كانت أسرة ”كلبي“ العربية تحكم (902-1091)، محلا لهذااللقاء بعد أن فتحها روجر الأول (توفي سنة 1101). ولم يكن إبنه روجر الثاني (حكم 1130- 1154)، وحفيد الأخير فردريك الثاني لأسرة هوهينزتاوفن (حكم 1215-1250)، وفيما بعد مانفريد وتشارلس أوف أنجو، لم يعملوا مترجمين للعربية واللاتينية فحسب، وإنما كانوا هم أنفسهم يمتلكون معرفة مباشرة بالأحوال والعادات العربية ـ الإسلامية، ومتقبلين الأساليب والقيم الثقافية العربية.
وكانت سوريا ـ فلسطين مكانا آخر للصِدام خلال الحقبة الصليبية (1099-1291). إذ يصف كتاب ويليام الصُوْري (1130-1184) المعنون ”الاعمال المنجزة فيما وراء البحار“ الحقبة الممتدة من سنة 1094 حتى سنة 1184 (وهي سنة وفاة المؤلف)، ويتضمن أوصافا دقيقة لسلوك المسلمين العرب، وربما يسمى هذا الكتاب عملا تاريخيا صِرفا لهذا المستشرق. وهنا، أيضا، وُضعت بعض الترجمات ذات الطبيعة العلمية من العربية إلى اللاتينية. وقد احدثت المعرفة التي إكتسبها الفرنجة هنا مباشرة من ثقافة اسمى، نتيجة احتكاكهم- بالمسلمين في الحياة الفعلية، تحولا أكثر واقعية لمعرفة أوربا عن الشرق؛ إذ حدثت إستعارات ثقافية هائلة وتزايدت التجارة بين كلا جانبي البحر المتوسط.
وقدّم غودفري من فايتربو (القرن الثاني عشر) رواية تاريخية معقولة عن حياة محمد في كتابه المعنون ”تاريخ حوادث العالم“. وقدّم دون رودريكو جيمينز دي رادا، رئيس أساقفة طليطلة (في أوائل القرن الثالث عشر) رواية منصفة عن تاريخ العرب، ولاسيما في الغرب، من ضمنه إسبانيا في كتابه ”تاريخ العرب (أو: السراسنة)“. وإستكشف الرحالة المتأخرون، إلى حد ما، أمثال ويليام اوف روبروك (1220-1294، الذي تجول في سنة 1254)، وماركو بولو (1254-13424) عوالم أخرى، وثقافات واديان ما وراء العالم الإسلامي. وضمن أوربا نفسها إسكتشف الرحالة الروحيون على طول المسالك الأولية مظاهر ايجابية عن الإسلام ممثلة، مثلا، بشخصية صلاح الدين وقدموا صيغة سرية ومقصورة على فئة محددة في كتاب ولفران فون آيشينباخ المعنون”بارزيفال“ و ”فليهالم“، فضلا عن الترجمة الألمانية ﻠ ”الكأس المقدسة“ (Grail).
أما الإسهامان الأخيران بالدراسات العربية لهذه الحقبة فهما من إسبانيا أيضا ويمكن أن يؤرخا بثلاث عشرة سنة بعد سقوط غرناطة (1492). ففي كتابه المعنون ”قواعد اللغة العربية في العهد القشتالي المتأخر“ المطبوع سنة 1505، ترك العلاّمة بيدرو القلعي أو بطرس الإسباني تعدادا قيّما بالخط اللاتيني عن المفردات العربية في اللغة المتداولة في غرناطة في ذلك الوقت. وفي مؤّلف آخر للعلاّمة نفسه بعنوان ”فن تعلم اللغة العربية المبسطة“ (طُبع في سنة 1505، الطبعة الثانية، وصُحح ووُسع في سنة 1505) أصبحت لدينا أول قواعد عربية يكتبها أوربي، يصف فيها العربية المنطوقة في غرناطة بوساطة فئات من القواعد اللاتينية.
وخلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، درس انسانيو عصر النهضة الإيطالية المؤلفين اليونانيين واللاتين الكلاسيكيين، ليس هذا فحسب، وإنما أولوا إهتماما بالكتابات القبالية العبرية والنصوص العربية الأساسية للعلم، والطب، والفلسفة الأوربية أيضا. وفي هذه المرحلة، كان الإرث الثقافي العربي لا يزال جزءا من الوجدان الأوربي، على الأقل في إيطاليا. ومع ذلك، حدث تغير خلال القرن الخامس عشر، ممثلا بالإنساني الكبير جيوفاني بيكو ديللا ميراندولا (1463-1494) الذي، على الرغم من إجادته اللغتين العربية والعبرية، عاد إلى التراث الكلاسيكي وترك التراث العربي جانبا. وإزاء ”الكلاسيكيين“ أخفقت مهمة ”المستشرقين“ في إظهار حقائق وأهمية العالم العربي الإسلامي وتراثه.
2. التهديد التركي؛ الحقبة (1450-1700)
بعد فشل حملات البلقان الصليبية ومحاولات التوحيد مع الكنيسة الارثذوكسية اليونانية، كان رد فعل الكنيسة الرومانية الأول على سقوط القسطنطينية (1453) رد فعلٍ إنفتاحي نسبيا، بفضل جهود بعض المفكرين العِظام. فبعد سقوط القسطنطينية مباشرةً إقترح جون اوف سيغوفيا (1400-1458) عقْد مؤتمرٍ بين رجال الدين المسيحيين والفقهاء المسلمين لفتح حوار بشأن ديانتيهم. وكان نيكولاس اوف كوسا (1401-1464) قد نشر مسبقا كتابه ”في سبيل خطوة مخلصة“، وهو حوار بين ممثلي الأديان الرئيسة بحثا عن حقيقتها ووحدتها. ويعدّ كتابه ”أضاليل القرآن“ (سنة 1460) تفحصا دقيقا في محتويات القرآن، حاول فيه مطابقة أوجه التشابه والاختلاف بين الإسلام والمسيحية إستنادا إلى النص. فضلا عن ذلك، فإنه إقترح القيام بإجراءات عملية لتحقيق المؤتمر الإسلامي ـ المسيحي الذي سبق وأن اقترحه جون أوف سيغوفيا. وكتب البابا الجديد بايوس الثاني، الإنساني آنياس سيلفيوس (1405-1464)، بابا من سنة 1458 حتى وفاته، بتحريض من جون، رسالة إلى السلطان العثماني محمد الثاني، فاتح القسطنطينية، ناشده فيها الإحتكام إلى العقل والشعور العملي المشترك في العلاقات المرتقبة بين العالمين اللذين يقاتل احدهما الآخر.
وأثّر قرب الإمبراطورية العثمانية، الدولة الراسخة بقوة، التي كانت قوتها لا تزال تتصاعد حتى منتصف القرن السادس عشر (لاسيما بعد حصار فيّنا سنة 1529)، في تطور المعرفة عن المجتمعات الإسلامية والإسلام في أوربا. وأيا كانت الأسباب، فقد إعترف الأوربيون بالحاجة الواضحة لمعرفةٍ حقيقيةٍ وموضوعيةٍ عن هذه الإمبراطورية الإسلامية، وإدارتها، ومواردها، ودينها، ومؤسساتها، وهلم جرا؛ فضلا عن ذلك، فإن قربها سهّل الحصول على ذلك على نحو مباشر وعلى نحو غير مباشر. وإلى جانب المصالح العسكرية والسياسية، كانت هناك مصالح إقتصادية مدعومة في تأسيس وتوسيع العلاقات التجارية مع كل من إسطنبول، وسميرنا، والشرق. وإستُكملت هذه الحاجة لمعرفةٍ عمليةٍ بحافز الفكر الإنساني وحافز النهضة. وظهر موضوع جديد للدراسة: الإسلام في بيئته العثمانية، وأخذ الإسلام يُطابق الآن مع الأتراك ومع حكمهم إلى حد كبير. وتحولت فكرة كون الإسلام ديناً مكروهاً وبناءً آيديولوجياً، على نحو مهذب، إلى فكرة كون الإسلام قوةً وحضارةً عثمانيتين. وقد عُدّت هذه الحضارة مختلفة عن الحضارة الأوربية، ولكن مازالت هناك حضارات أبعد، ما وراء نطاق العثمانيين، في بلاد فارس والهند والصين واليابان. وتطورت هذه الفكرة عن حضارةٍ إسلاميةٍ فيما بعد إلى فكرة كون الإسلام ثقافةً مناسبةً مهذبة تم التعبير عنها في كتاب (ألف ليلة وليلة)، بل وحتى في روائع الأدب (أي في الشعر العربي والفارسي).
قديسة المطر- ♛ الفخامة ♛
- جائزه تسجيل للعام 10 اعوامتاج 100 موضوعجائزه عدد النقاطتاج المواضيععدد المشاركات بالمواضيع المميزهوسام التميزجائزة الاعضاء المبدعونجائزه المواضيع امميزه
- عدد الرسائل : 1133
العمل/الترفيه : الفكر..
الابراج :
الموقع : https://stst.yoo7.com
احترام القانون :
المزاج : تذكرني بكــره
نقاط : 17000
السٌّمعَة : 13
تاريخ التسجيل : 06/07/2009
تعاليق : يغــار [ قلبـي ] كثر ماتحبك الناس
ومن طيبك أعذر كل منهو ][ يحبـك ][
مدام كل [ الناس ] بـك ترفع الراس
أنا أول أنسان وقف ][ يفتخر بك ][
رد: المستشرقون ترجمة د. انيس عبد الخالق محمود
كانت اللغة العثمانية التركية تُكتب بالخط العربي، ففرضت تقنية الحفر على الخشب أولا، ومن ثم طباعة الحرف المفقود نفسها أداةً مهمة على الدراسات الشرقية. وكانت أول نص عربي مطبوع قد طُبع في روما سنة 1514؛ وكان متعلقا بالطقوس الدينية المخصصة للمسيحيين الشرقيين. وقد طُبع أول قرآن عربي في فيّنا نحو سنة 1530، لكن الطبعة الكاملة اُتلِفت بناءً على أمر البابا بول الثالث (تولى ما بين 1534-1537). ومع ذلك، أسس دانييل برومبرغ مطبعة عربية في فيّنا نحو سنة 1537.
وهناك بضعة مطابع عربية في روما، أهمها مطبعة فرديناند دي ميديشي التي تأسست نحو سنة 1586، فطبعت الأناجيل الأربعة بالعربية سنة 1590، ليستخدمها المسيحيون الشرقيون مجددا، مع نصوص أخرى. والحقيقة إن إهتمام الكنيسة الرومانية بالطباعة العربية قد تطلب جهودا مكثفة لإقامة إتصالات، ومن ثم التوحد، مع الكنائس الشرقية في الإمبراطورية العثمانية، مثلما حدث في إسبانيا الوسيطة خلال حروب الإسترداد حينما حُفِّزت دراسة اللغة عن طريق النشاط التبشيري بين السكان المسلمين الذين كانوا يعيشون في الأراضي التي فتحها الملوك المسيحيون. وفي المنظور نفسه للاتحاد الكنسي، تم تأسيس كلية مارونية في روما سنة 1584 (فضلا عن كلية أرمنية) ودُعي رجال الدين المارونيون وغير المتخصصين إلى روما لتلقي التوجيهات ولتقديم الخدمات على حد سواء، في قضايا اللغة العربية مثلا. وفي سنة 1627 أسس اوربان الثامن ”كلية نشر الايمان“ التي كانت تشجع دراسة اللغات الشرقية للأغراض التبشيرية أيضا.
والمطبعة المهمة الأخرى هي تلك التي أسسها فرانسوا سافاري دي بريفيز، في روما أولا نحو سنة 1613 ونُقلت فيما بعد إلى باريس في سنة 1615، حيث أصبحت ”مطبعة اللغات الشرقية“. وقد أسس فرانسيسكوس رافالينغيوس (1539-1597) مطبعة تجارية في هولندا، في حين أسس توماس إيربينيوس (1584-1624) مطبعة خاصة بيعت فيما بعد إلى الزيفير (Elzevir؟) في أمستردام. وعلى نطاق أقل كانت النصوص العربية تُطبع في بريسلاو في المطبعة التي أسسها بيتر كيرستن (1575-1640) قبل أن يهاجر إلى السويد في سنة 1636.
غيلاوم بوستل والبيئة الفرنسية
بعد البرتغال وإسبانيا، شهدت كل من إنكلترا وفرنسا القرن السادس عشر كلتاهما توسعا هائلا في افاقهما وإهتماماتهما، وطور الناس إحساسا مفعما بالحيوية لما كان جديدا وأجنبيا حتى ذلك الحين. وقد حدث ذلك تحديدا من خلال الرحلات والإستكشاف الجغرافي و، ربما أكثر مما حصل في شبه الجزيرة الايبيرية، من خلال الإستكشاف الفكري والروحي. ويعدّ غيلاوم بوستل (1510-1581) ممثل حالة إستكشاف العقل هذه، ضمن بيئة فرنسا، وإيطاليا، والنمسا في ذلك الوقت. وبموهبته في اللغات، درس عددا منها وأصبح فرنسيس الأول (1494-1547، ملك فرنسا منذ سنة 1515 حتى وفاته)، الذي كان مولعا بإجتذاب الفنانين والإنسانيين إلى بلاطه، مهتما به. ولو أخذنا بنظر الإعتبار سياسته الشرقية الميالة للعثمانيين، التي أسفرت عن توقيع معاهدة تضمنت إمتيازات ذات قيمة كبيرة في سنة 1535 ونظرته إلى السياسة البابوية في التوحد مع الكنائس الشرقية، وهي السياسة التي كان يؤيدها، فإن فرنسيس الأول كان يحتاج إلى خبراء. وقد عيُن بوستل، الذي كان أنهى للتو رحلة موسعة إلى كل من مصر والقسطنطينية ونشر كتابه ”قواعد اللغة العربية“، إستنادا إلى النحويين العرب (1538-1539)، أستاذا للغة العربية في سنة 1538 في الكلية الملكية التي تأسست حديثا سنة 1530 وأصبحت فيما بعد ”كلية فرنسا“. وقد نشر بوستل كتابا عن الإمبراطورية العثمانية بعنوان ”جمهورية الأتراك“ (1539-1540)، قدّم فيه صورة مثالية جدا عن حليف الملك (الفرنسي). ولأسباب عدة طرد فرنسيس الأول بوستل من الكلية الملكية في سنة 1543، وأشر ذلك بداية مرحلة جديدة في حياة هذا الرجل المضطربة. وبعد مغامرات روحية، وفكرية، وسياسية بعيدة الاثر، وبضعة مشادّات كلامية مع ديوان التحقيق الروماني، أنهى حياته بصفته سجين الأمر الواقع في أحد الأديرة الفرنسية (1562-1581)، وظلت تحركه الأفكار العظيمة لهداية العالم والهيمنة العالمية قبل حلول النهاية الوشيكة للعالم التي وردت في سفر الرؤيا. فإنتقلت مخطوطاته النفيسة إلى جامعة هايدلبرك.
مأسسة الدراسات الإستشراقية: ليدن
توافرت الأمثلة المهمة على الجهد الحثيث لتطور الدراسات الإستشراقية في النصف الأول من القرن السابع عشر بتأريخ هذا الحقل في جامعة ليدن، التي سرعان ما بلغت شأوا عظيما. تأسست هذه الجامعة في سنة 1575 مكافأة لصمود المدينة أمام الحصار الإسباني سنة 1574. وقد أعلنت الأراضي المنخفضة إستقلالها في سنة 1581. وبسبب توجههم نحو البحر والتجارة البحرية، بسبب مصالحهم الحيوية مع الإمبراطورية العثمانية والمغرب، عدّ الهولنديون معرفة اللغات الشرقية مطلبا من مطالب العصر. وقد بدأ فرانسيسكوس رافالينغيوس (1539-1597) بتدريس اللغة العبرية في ليدن سنة 1586، وفي سنة 1593 أضاف اللغة العربية وأعدّ كتابه ”القاموس العربي“ الذي نُشر بهيأته الأخيرة في سنة 1613. وعُيّن الكلاسيكي، والمؤرخ، والمستعرب جوزيف سكاليغر، تلميذ بوستل، من دون واجبات تعليمية محددة، أستاذا في سنة 1593. وقد اُنشِئ كرسي مستقل للغة العربية في سنة 1599. وبعد سكاليغر، تعززت سمعة ليدن في هذا الحقل بجهود باحثين إثنين ذوي مكانة رفيعة. ففي سنة 1613 عُين توماس هيربينيوس (1584-1624)، الذي كان إهتمامه الرئيس باللغات، أستاذا للدراسات الشرقية؛ وفي السنة نفسها نشر كتابه المهم ”القواعد العربية“ الذي أصبح مصدرا معتمدا لمدة قرنين (1636؛ طبعة موسعة 1656؛ 1748). وكان جاكوب غوليوس (1596-1667) قد عُين خليفة له في سنة 1624؛ وفي سنة 1653 نشر كتابه المهم ”القاموس العربي ـ اللاتيني“ إستنادا إلى القواميس العربية وقراءاته الشخصية، الذي أصبح مصدرا معتمدا في البحث أيضا. وإلى جانب نشر هذه الأعمال الكبرى في البحث، ميّز هذان الرجلان نفسيهما أيضا بالشأن التربوي النموذجي؛ فكلاهما أعدا مواد عربية مقروءة للمبتدئين إستمرت نحو قرنين. وبهذا الخصوص، أعد إيربينيوس كتابه ”حِكم وأساطير لقمان“ مع بعض الحِكم والأمثال العربية في سنة 1516 ونصاً بالحركات مع ملاحظات وترجمة لاتينية لسورة يوسف، سنة 1617، بينما نشر غوليوس كتاب ”شذرات الأدب...“ في سنة 1629.
لكن سمعة ليدن في الدراسات الإستشراقية ترسخت بمعنىً عملي وبحثي أيضا. ومثلما اُرسل غيلاوم بوستل من لدن فرنسيس الأول لشراء المخطوطات الشرقية في الشرق، قضى غوليوس بعد تعيينه المدة الممتدة من 1625 حتى 1629 في الشرق، جالباً معه حصيلة مكونة من نحو (300) مخطوطة عربية، وتركية، وفارسية. والأهم من ذلك، كان ممثل مجلس الطبقات الهولندي في الباب العالي بعد سنة 1655، ليفينيوس فارنر (1619-1665)، الذي درس في ليدن وعاش في إسطنبول منذ سنة 1644، قد أودع مجموعته النفيسة المكونة من نحو ألف مخطوطة مع كتبه إلى مكتبة جامعة ليدن. وكانت هذه المكتبة قد حصلت مسبقا على مكتبة سكاليغر ومخطوطات غوليوس، وأصبحت فيما بعد بمثابة مكة للمستعربين.
أمثلة من أعمال بحثية
من بين الأعمال البحثية للحقبة قيد الدرس التي تستحق الإشارة أولا وقبل كل شئ كتاب جوزيف جوستوس سكالنغر المعنون ”نحو تصحيح مؤقت“ (1583؛ طبعة موسعة 1598؛ 1629). وكان هذا الكتاب ثمرة أبحاث وقراءات إستشراقية موسعة، محيطا بمختلف التقاويم الشرقية ومقدِّما نوعا من أنواع التاريخ العالمي. وبعد قرن تمكن ريتشارد سيمون (1638-1712) من تقديم كتابه ”تاريخ نقدي لمزاعم وعادات أمم الشرق“ في سنة 1684، الذي قدم فيه، بموضوعية قدر الإمكان، المجتمعين الإسلامي والمسيحي اللذين يعيشان في الشرق الأدنى جنبا إلى جنب. وخلال الحقبة نفسها تقريبا ظهر في فيّنا كتاب فرانز مينكينسكي النفيس المعنون ”خزانة اللغات الشرقية...“ ، بثلاثة أجزاء، وهو قاموس تركي ـ عربي ـ فارسي ـ لاتيني أصبح مصدرا معتمدا.
وبهذا الخصوص، لابد من الإشارة إلى مسألة نصّ القرآن وترجمته. إذ إن البابا اليكساندر السابع (1655-1667) كان لا يزال يمنع طبعه وترجمته على حد سواء. وبفضل اللاهوتي البروتستانتي ببلياندر، طُبعت ترجمة روبرت الكيتوني اللاتينية للقرآن، التي يعود تاريخها إلى سنة 1143، في بازل سنة 1543، مع طبعة ثانية ظهرت في سنة 1550. وفي سنة 1647 نشر أندريه دو راير ترجمة فرنسية أصلية مصحوبة ﺑ ”محتويات دين الأتراك“؛ وتُرجمت هذه الترجمة بالمقابل إلى عدة لغات أوربية أخرى. وفي سنة 1694 نشر أبراهام هنكلمان نص الطبعة العربية الأولى من القرآن. وفي سنة 1698 عُلم إن العلامة الكاثوليكي لودوفيكو ماراتشي نشر نص الطبعة العربية والترجمة اللاتينية من القرآن تتصدرها مقدمة مطولة سُميت ”المقدمة“. وكانت هذه هي الطبعة المعتمدة لمدة قرن ونصف القرن على الأقل.
وثمة طبعات أخرى لنصوص مهمة إلى جانب القرآن، وهي ”كتاب الشفاء“ لإبن سينا، وكتابه ”النجاة“، اللذان نُشرا سويةً في أوائل سنة 1593، في روما. وحقق إيربينيوس ”سورة يوسف“ المُحرّكة مع ترجمة لاتينية وملاحظات كمقدمة لقراءة القرآن، في سنة 1617، فضلا عن ”العهد الجديد العربي“ سنة 1616، و”أسفار موسى الخمسة“، سنة 1622. وفي سنة 1625 ظهر تحقيقه وترجمته للجزء الأكبر من حوليات العالم للمؤرخ القبطي المكين (توفي سنة 1273) إبتداءً من النبي محمد فصاعدا، سوية مع ”تاريخ العرب“ أو السراسنة لرودريكو جيمينيز دي رادا (سنة 1210). وقد عيّن العالم البريطاني ادورد بوكوك (1604-1691)، الذي كان يجوب الشرق الأدنى على نحو مكثف ما بين 1637 و 1640 لجمع المخطوطات، أستاذا لكرسي اوكسفورد المستحدث للغة العربية في سنة 1638. وقد حقق هذا التاريخ الكبير لأبي الفرج غريغوريوس (إبن العبري) ”تاريخ مختصر الدول“، أولا في جزء منه مع ملاحظات مسهبة في كتابه ”تاريخ العرب المثالي“ (سنة 1650)، ومن ثم في تمامه، الذي نُشره ولده بعد وفاته في سنة 1663، وقام هذا الأخير أيضا بتحقيق كتاب إبن طفيل ”حيي بن يقظان“ سنة 1671. كما قام السوري المسيحي سالومو نيغري بتحقيق العهد الجديد العربي مرة أخرى في لندن سنة 1727، بعد طبعة إيربينيوس لسنة 1616.
3. ولوج عصر التنوير؛ القرن الثامن عشر
شهدت نهاية القرن السابع عشر ظهور سلسلة جديدة من المطبوعات عن الإسلام أو ذات علاقة به نفحت نسيما مختلفا عن معظم المطبوعات التي ذُكرت حتى الآن. ووقفت هذه المطبوعات في مشروع الجدل القديم بين المسلمين والمسيحيين، والمعارضة المعلنة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية. ولم يُخفِ علماءٌ أمثال إيربينيوس وبوكوك عداوتهم لمزاعم محمد بالنبوة ولفكرة كون الإسلام دينا مقبولا. ولم يكن هذا مجرد مسألة حكم شخصي فحسب، وإنما له علاقة بالمكانة المهيمنة لعلم اللاهوت المسيحي في الجامعات أيضا. وكان فقه اللغة العربي يُستخدم دائما بصفته أداةً مساعدة لتفسير العهد القديم العبري؛ وعدّ عالم أخر هو ألبرت شلتنز (1686؟-1570)، كما عدّ آخرون قبله، اللغة العربية مجرد لهجة من لهجات اللغة العبرية. وكان الإسلام تقريبا يُقارن دائما مع تعاليم المسيحية ويُحكم عليه بموجبها. بكلمة أخرى، كانت اللغة العربية والإسلام يُدرسان طبقا لمعايير علم اللاهوت المسيحي أو حتى ﻜ ”لاهوت تابع“.
حدث التقدم المفاجئ في دراسة الإسلام والأراضي الإسلامية، وتحررها بروح التنوير العقلاني في وقت كانت فيه الإمبراطورية العثمانية، بعد حصارها الأخير لفيّنا في سنة 1683، في مرحلة تقهقر وتوجب عليها توقيع معاهدة كارلوفتز سنة 1699. ولابد إن هذا الإختفاء للخطر التركي من المسرح الأوربي، الذي أشر نهاية الحروب الدينية، كان يعني تخفيف التوتر، لا السياسي فحسب، وإنما النفسي والثقافي والديني أيضا. وما أن لم يعد الأتراك يشكلون خطرا سياسيا، لم يعد بمقدور الإسلام أيضا أن يُنظر إليه على إنه دين خطر ملازم. ومن خلال الرحلات إلى الشرق، كانت أوربا قد بدأت مسبقا بتطوير فضول وإنفتاح ثقافي في النصف الثاني من القرن السابع عشر وأصبح بالإمكان الآن مدّ هذا الإهتمام الى ما وراء الثقافة الصينية، إلى الثقافة الإسلامية الاوسع أيضا.
من بين أولى المنشورات التي استلهمت هذه الروح الجديدة المنتعشة والمنفتحة كتاب ”ببلوغرافيا الشرق“ ذي الألف صفحة، الصادر سنة 1697، بتحقيق بارثولومي دي هيربيلوت (1625-1695)، الذي قدّم طرازا جديدا من ”مستشرق“ متنور. وقد اُعد بدعم ملكي وسعى لتقديم كل ما يمكن أن يهم الجمهور الفرنسي من الأعمال العربية والتركية والفارسية بنسق الفبائي. وكان المنشور الآخر، الذي فتح جانبا أكثر خياليةً من الثقافة الإسلامية، هو الترجمة الفرنسية ﻟ ”ألف ليلة وليلة“ في إثني عشر مجلدا بين سنتي 1704-1717. وقد قام بهذا العمل أنتوني غالاند (1646-1715)، الذي كان منذ سنة 1709 أستاذ اللغة العربية في ”الكلية الفرنسية“، وقام بجولات عدة في الشرق الأدنى، ونشر مسبقا، في سنة 1694، كتابا عن الأمثال من الأدب الإسلامي يوضح فيه حصافة المسلمين.
كان التوجه الجديد، العقلاني، لهذه المرحلة، الذي نأى بنفسه مسبقا عن المسيحية التقليدية وعارضها، قادرا أيضا على دراسة وتثمين الأديان الأخرى بإنفتاح اكبر من ذي قبل: إذ عدّ ليبنز (1646-1716) الإسلام دينا طبيعيا، وفي سنة 1720 جرى تداول كراس مجهول المؤلف بعنوان ”محمد ليس دعيّا، أو دفاعا عن محمد“. وفي سنة 1730 صدر كتاب ”حياة محمد“ كتبه هنري بولاينفيليرز (1658-1722)، وُصف فيه محمد بأنه شخصية بطولية. وكتب سيمون أوكلي (1678-1720) كتابه ”تاريخ العرب المسلمين“ (1708-1718) بروح متعاطفة، وقدم إدورد غيبون (1737-1794) وصفا تاريخيا موضوعيا عن ظهور الإسلام في كتابه ”إضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها“ (1776-1781). وقدّم فولتير (1694-1778) وصفا مشابها في كتابه ”مقال عن أخلاق وروح الأمم...“ الصادر سنة 1753. وبطريقة غير مباشرة، كان الإسلام يُستخدم للتعبير عن أفكار نقدية تجاه المجتمع والدولة والكنيسة: ومن أمثال هؤلاء مونتسكيو في كتابه ”رسائل فارسية“ الصادر سنة 1721، وفولتير في كتابه ”التعصب أو النبي محمد“ الصادر سنة 1742.
والأهم من ذلك، تلك الدراسة التي قدمها أحد المتخصصين، وهو أدريان رينالد (1676-1718)، أستاذ اللغات الشرقية في جامعة اوترخت، بشأن الدين الإسلامي نفسه، بعنوان ”الكتاب الثاني بشأن الخوف من الدين الاسلامي“(1705- 1717). وهنا قدّم رينالد الإسلام كما وصفه المؤلفون المسلمون أنفسهم، مترجما النصوص الأصلية، منددا ومفندا الأفكار الخاطئة السائدة عن الإسلام في عصره. وقد تُرجم هذا الكتاب، المكتوب باللاتينية، إلى اللغتين الفرنسية والألمانية، ويمكن أن يسمى أول دراسة متنورة عن الإسلام بصفته دينا. وبروح العرض المعقولة نفسها، نشر المحامي جورج سيل (توفي سنة 1736) ”خطابه الأولي“ عن الإسلام بصفته دينا، قبل ترجمته الإنكليزية للقرآن في سنة 1734. إن هذا التغير في الرؤية، وحرية البحث وإنعتاق الدراسات العربية والإسلامية من الوصاية اللاهوتية، لم يكن من السهل أن يظهر حتى ظهور كتاب المستعرب الموهوب المغمور جوهان جاكوب ريسك (1716-1774) المعنون ”السيرة الذاتية“ في سنة 1783. وكما كان رينالد سبّاقا في الدراسة الحديثة عن الدين الإسلامي، كان ريسك، إلى جانب كونه مستعربا طبقا للمعايير الحديثة، في كتابه ”جداول مذكرات حاجي خليفة؟“ (الذي كُتب في سنة 1747 وطبع سنة 1766)، سبّاقا في الدراسة الحديثة عن التاريخ الإسلامي.
وكانت الإشارة الأخرى للروح المتفتحة الجديدة هو ذلك النوع من أدب الرحلات المدروس (التأملي) الذي ظهر إلى الوجود في هذه المرحلة، كما هو الحال في كتاب فولني (1757-1820) المعنون ”رحلات في سوريا ومصر“، الصادر سنة 1787، مثلا.
أدت هذه الروحية المتفتحة إلى حساسية جديدة أيضا تجاه الفنون الجميلة والجمال الأدبي أيضا. وكان ويليام جونز (1746-1794)، الموهوب جدا باللغات وقاضي كلكتا منذ سنة 1783، من أوائل المستشرقين الذين سلكوا هذا المسلك. وفي سنة 1774 نشر كتابه ”الشروح الستة للشعر الاسيوي“، الذي قدم فيه أول بانوراما لميدان الشعر الثر الموجود تحديدا في الدول الإسلامية باللغات العربية والفارسية والتركية. وما أن وصل إلى الهند، حتى كرس نفسه لتعلم السنسكريتية وترجم كتبا سنسكريتية عدة إلى اللغة الإنكليزية. وفي الوقت نفسه، مع إدراك واضح للحاجة العملية، بادر لتهيئة نشر كتاب ”خلاصة للهندوسية والشريعة الإسلامية“.
دور أشخاص من المناطق المعنية
أدى اُناسٌ من المناطق المعنية، كلهم من المسيحيين تقريبا، وبطرائق عدة، دورا في عملية إكتساب المعرفة عن الإسلام والمجتمعات والثقافة الإسلامية. فقد كُتبت قائمة مصطلحات باللغة الإسبانية بمساعدة المسلمين المتحولين إلى المسيحية الذين، اياً كانت معرفتهم باللغة العربية، كانوا يعرفون القليل عن اللاتينية أو لا شئ منها. وبصفتهم ”مسيحيين“ جدد يتكلمون العربية عملوا وسطاء بين الفاتحين المسيحيين والسكان المسلمين.
وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر بدأ مسيحيو الشرق الأدنى، ومعظمهم من المارونيين ولكنهم أعضاء في الكنائس المتحدة، بممارسة دورٍ أيضا. وقد توجه عدد معين منهم إلى الكلية المارونية الجديدة في روما، التي تأسست في سنة 1586، لمتابعة الدراسات اللاهوتية. وتوجه آخرون إلى كل من إيطاليا وفرنسا للدراسة أو للعمل بصفة مترجمين إلى العربية. وجاء آخرون من أجل تطوير وضعهم الشخصي. وكل هؤلاء كانوا يفتقرون إلى التعليم المناسب، إذ تظاهر المسيحيون الشرقيون إنهم قادرون على تدريس اللغة العربية، وتقديم معلومات موثوقة عن المجتمعات الإسلامية بل وحتى تقديم توجيهات عن الإسلام، مما تسبب في حدوث إرباك أكثر من تقديم معرفة.
ومع ذلك، كانت هناك شخصيات إستثنائية. فالأسير المغربي الحسن بن محمد الوزّان الزياتي تحول إلى المسيحية، متخذا إسم ”ليون الأفريقي“ وألّف كتابا عن ”مشاهير العرب“، فضلا عن كتابه الشهير ”وصف أفريقيا“ (نحو سنة 1520). وفي باريس تعلم إيربينوس الكثير من مغربي يُدعى ”الأندلسي“، الذي أبلغه بشأن الإسلام أيضا. وقام أشخاصٌ من عائلة السمعاني المارونية بتصنيف مخطوطات عربية في عدة مكتبات بإيطاليا خلال القرن الثامن عشر، ونشر الماروني ميخائيل الغزيري (1720-1791) فهرسا للمخطوطات العربية في المكتبة الاسكورياليةبمجلدين بين سنتي 1760-1770. وكتب العلاّمة السوري المسيحي ناصيف اليازجي (1800-1871) تعليقا نقديا عن طبعة سلفستر دي ساسي لمقامات الحريري سنة 1822، التي نشرها أي. دبليو. إف. مِهرِن بالعربية مع ترجمة لاتينية في لايبزك سنة 1848.
مؤسسات تعليمية جديدة
إلى جانب كراسي اللغات الشرقية المرتبطة بالعدد المتزايد من الجامعات الأوربية، كانت هناك حاجة متزايدة لتعليم اللغات الشرقية عمليا، ولاسيما للمفسرين والمترجمين. وفعلا، ففي سنة 1670 تأسست مدرسة فرنسية للمفسرين في أحد الأديرة في بيرا. وفي سنة 1700 تأسست ”كلية الشباب للغات“ في باريس للغرض نفسه. وكانت هذه الكلية بإدارة الجزويت، كما هو عليه الحال في ”الأكاديمية الشرقية“ التي تأسست في فيّنا سنة 1754 للغرض نفسه ولكنها كانت تُعد الشباب النمساويين للخدمة الخارجية.
وتأسست ”الكلية المتخصصة باللغات الشرقية“ في باريس سنة 1795 لدراسة اللغات الشرقية الحية، نظرا للحاجة المتزايدة للناس المؤهلين لتمثيل المصالح التجارية والسياسية الفرنسية في كل من آسيا وأفريقيا. وتركز التعليم على العربية، والتركية والتتارية القرمية، والفارسية والملاوية. واُنيط كرسي أستاذية اللغة العربية في ”الكلية المتخصصة“ سنة 1795 بأنتوين اسحاق سلفستر دي ساسي (1758-1838)، الذي أصبح، في سنة 1806، أستاذ اللغة الفارسية في ”كلية فرنسا“ أيضا. وبكتبه ”في قواعد اللغة العربية“ الصادر سنة 1810، و”مختارات أدبية عربية“ الصادر سنة 1806 و”قواعد المختارات الأدبية“ الصادر سنة 1829، تمكن من إستبدال مطبوعات إيربينيوس وغوليوس القديمة. وجعلت هذه المؤلفات الخالية من الأخطاء في عالم فقه اللغة العربية من ساسي المستعرب البارز في أوربا، المؤسس لمرحلة جديدة لدراسة اللغات الإسلامية. وفي سنة 1803 اُضيف كرسي أستاذية العربية المنطوقة للكلية المتخصصة، وتم تعيين العلاّمة القبطي إلياس بُقطر (1784-1821) للمنصب. وقد أعد هذا قاموسا عربيا ـ فرنسيا بمجلدين (العربية الدارجة لاسيما في مصر) الذي نشره وريثه في المنصب أي. بي. كاوسن دي بيرسيفال. وقد ألّف الأخير بدوره كتابا بعنوان ”قواعد العربية الدارجة“ في سنة 1824.
بخصوص البريطانيين فإنهم، بعد وليام جونز (1746-1794) وإنشائه الجمعية الآسيوية في البنغال سنة 1784 في كلكتا، أسسوا كلية فورت ويليام لدراسة اللغات والأداب الشرقية في سنة 1800، على بقعة الارض نفسها تماما. وإستمرت هذه الكلية بتوفير محاضرات في أهم اللغات الهندية، وبنشر عدد من نصوص الطبعات والمنشورات والقواميس والدراسات ذات الطبيعة العلمية حتى سنة 1854. وكان الباحثون يعملون بروح الحماسة للثقافة الهندية (من ضمنها الإسلامية) التي ألهمت ويليام جونز مسبقا، وكانوا راغبين بالتعلم من الثقافة التي وضعهم التاريخ فيها. وفي مقابل هذا الخط من ”المستشرقين“ المتحمسين الذين كانوا يريدون تعلم وخدمة ودراسة الثقافات المحلية للمستوطنات، برز خط اﻠ ”متكلنزين“ (Anglicists) الذين فرضوا التعليم والمعايير والقيم البريطانية. فبدأ المستعمرون يطالبون بمستحقاتهم.
وفي النمسا، القوة الأوربية الرئيسة الثالثة التي طورت علاقات مع المسلمين، ولاسيما في البلقان، اتُخذ نوع آخر من المبادرة لنشر المعرفة عن الثقافة الإسلامية. فقد أسس جوزيف فون هاممر ـ بورغستال (1774-1856)، الذي أسس الدراسة العلمية للغات والآداب الشرقية في النمسا، أول صحيفة إستشراقية معروفة في أوربا. وبين سنتي 1809 و 1818 ظهرت ستة أعداد من ”الكنز الدفين للشرق“، لتقدم المعرفة عن العالم الإسلامي والمسلمين وتشجعها، وكان شعارها النصف الثاني من سورة البقرة، الآية 142/147.
ج. حقبة القرنين التاسع عشر والعشرين
1. الدراسات البحثية الدولية حتى الحرب العالمية الثانية
شهد القرن التاسع عشر ظهور الدراسات الإسلامية بوصفها ميدان دراساتٍ علميا قائما بحكم تراكم المعرفة. وقد أعطى نشر الكتاب المتعدد الأجزاء ”وصف مصر“ بين سنتي 1809 و 1822، الذي ألفته مجموعة من العلماء الفرنسيين ممن أجروا بحثا في مصر خلال حملة بونابرت هناك، دافعا كبيرا للدراسات الشرقية عموما. وكان هذا المشروع مثالا لما يمكن أن ينجزه الباحثون من خلال التعاون حينما يتمتعون بدعم مالي جيد وتنظيم كفء.
وكانت دراسة اللغة العربية شرطا مسبقا لأي بحث عن الإسلام والمجتمعات الإسلامية؛ ومهدت القواعد الوصفية وتصنيف المعاجم الطريق لطبعات نقدية لنصوص المخطوطات. وكان العلماء ذوو الصيت الكبير في هذا الحقل هم كل من انتوني سلفستر دي ساسي في باريس، وإدورد ويليام لَين (1801-1876) في كل من إنكلترا ومصر، ورينهارت بيتر دوزي (1820-1883) وميشيل جان دي غوجي (1836-1909) في ليدن، وهنريش ليبرخت فليشر (1801-1888) في لايبزك، وإغناتي يوليانوفتش كراتشكوفسكي (1883-1951) في سانت بطرسبورغ ـ لينينغراد. وكانت العلامة المضيئة بين هؤلاء قيام غوستاف فلوغل (1802-1879) بنشر النص العربي للقرآن سنة 1834 بفهرس أبجدي سنة 1842. وكان ذلك أمرا ضروريا للقيام بالمزيد من الدراسة الأدبية والتاريخية الصحيحة للقران. وكانت الدراسة الرائدة بهذا الخصوص هي دراسة تيودور نولدكة (1836-1930) بعنوان ”تاريخ القرآن“، وكانت بالأصل أطروحة باللاتينية (سنة 1856)، واُتبِعت النسخة الألمانية منها (سنة 1860) فيما بعد بطبعة مزيدة على نحو كبير بثلاثة مجلدات، بإشراف ثلاثة علماء ألمان آخرين، ظهرت ما بين 1909 و 1938. وتلا ذلك تزايد عدد الطبعات النقدية المطبوعة لنصوص المخطوطات العربية والفارسية والتركية، في أوربا أولا، ومن ثم في القاهرة وأماكن أخرى أيضا فيما بعد.
وقام مورتز شتاينشنايدر (1816-1907) بوصف بعض المصادر المخطوطة المتاحة، مثلا، فيما يخص المخطوطات الإسلامية واليهودية العربية، تلاه كارل بروكلمان (1868-1956) فيما يخص المخطوطات العربية عموما وجورج غراف (1875-1955) فيما يخص المخطوطات العربية المسيحية. وقد بزّ كتاب فوات سيزغن القيّم المعنون ”تاريخ الأدب العربي“ (منذ سنة 1967) إلى حد ما كتاب بروكلمان ”تاريخ الأدب العربي“ أيضا. ونشر كارول ألن ـ ستوري كتابه ”الأدب الفارسي“. ونُشر كتاب ”مسحٌ ببلوغرافي“ (للمخطوطات الفارسية) منذ سنة 1927 فصاعدا، مع طبعة موسعة جديدة قدمها يوري بيرغل سنة 1972.
واُجريت مسوح تاريخية واسعة للأدب بهذه اللغات قام بها، في سبيل المثال، كل من فون هاممر ـ بيرغستال وإلياس جون ويلكنسون جب (1857-1901) فيما يخص الأدب التركي، وإدورد غرانفيل براون (1862-1926) فيما يخص الأدب الفارسي. واُعقب المسح الأولي الذي أجراه رينولد ألين نيكولسون (1868-1945) لتاريخ الأدب العربي بمسح أكثر تنظيما لكنه لسوء الحظ غير كامل أجراه ريجس بلاتشري (1900-1973).
وتطلبت دراسة التاريخ الإسلامي تحقيقات وتحليلات للنصوص التاريخية. وكان الرواد البارزون في هذا الميدان كل من ألفِرد فون كريمر (1828-1889) فيما يخص التاريخ الثقافي الإسلامي، ويوليوس فلهاوزن (1844-1918) بخصوص التاريخ السياسي المبكر للإسلام. ويستحق دوزي الإشارة عن كتابه ”تاريخ إسبانيا الإسلامية“ الذي نُشر بأربعة مجلدات في سنة 1861.
وعلى أساس تنامي إمكانية الوصول للمصادر الأدبية والتاريخية ذات الصلة المناسبة بالدراسات الإسلامية، أو لنقُل دراسة الإسلام والمجتمعات والثقافات الإسلامية، أصبح بمقدور الدراسات الإسلامية أن تظهر إلى الوجود. وبهذاالخصوص، مهّد الطريقَ علماءٌ أمثال إغناس غولدزيهر (1850-1921)، وهيلموت رِتر (1892-1971) ولويس ماسنيون (1883-1962). وإلى هؤلاء يمكن أن نضيف أسماء كل من جوزيف شاخت (1902-1972) عن الشريعة الإسلامية، وهاملتون اليكساندر روسكين جب (1895-1971) عن تاريخ النظم الإسلامية تحديدا، وغوستاف ايدموند فون غرونباوم (1909-1972) عن تاريخ الثقافة الإسلامية والحضارة عموما، وآرندت جان فينسنك (1882-1939) عن دراسة الإسلام ضمن منظور علم الدين. ومن العلماء المعتدلين الذين يُحتذى بهم، كان فينسنك الروح المحركة وراء مشروعين كبيرين للتعاون الدولي في حقل الدراسات الإسلامية. وهما الطبعة الأولى من ”موسوعة الإسلام“ (Encyclopaedia of Islam) التي ظهرت بخمسة مجلدات بطبعة باللغات الإنكليزية، والفرنسية والألمانية بين سنتي 1913 و 1942 (التي أوحت بفكرة ”الموسوعة الإسلامية“ التركية التي بدأت بالظهور في سنة 1940)، ومجموعة ”الفهرس الابجدي وكشّاف الحديث النبوي الإسلامي“ التي ظهرت بثمانية مجلدات بين سنتي 1933 و 1989، وكلتاهما طبعتا في مطبعة إي. جَي. برل في ليدن.
2. المأسسة والتطورات حتى الحرب العالمية الثانية
لا يمكن توضيح التطور الهائل في الدراسات الشرقية عموما والدراسات الإسلامية على وجه التحديد في أوربا وأمريكا الشمالية منذ منتصف القرن التاسع عشر من حيث الدوافع الروحية والإهتمام العلمي الأكاديمي في العالم غير الغربي فحسب؛ وانما جاء هذا التطور بفضل توفر الأموال لتطوير هذه الدراسات في مؤسسات مستقلة جديدة وترتيبات مؤسسية للبحث والتعليم أيضا. إذ أصبحت الجامعات أكثر تنظيما، وتأسست كراسٍ جديدة، وسهّلت الإجتماعات العلمية مسألة التواصل، وتخصص بعض الناشرين في كتبٍ بهذا المجال، وتأسست الجمعيات التي تفضّل الدراسات الإستشراقية تحديدا.
ففي فرنسا أسس جان بابتست كولبرت ”كلية الشباب للغات“ في باريس سنة 1700؛ وظلت هذه الكلية تؤدي دور مدرسة للمفسرين حتى إغلاقها سنة 1873. وفي سنة 1795 تم إفتتاح ”الكلية المتخصصة باللغات الشرقية“، وفي سنة 1914 اُعيد تسميتها إلى ”المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية“، ثم إلى ”المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية“ في سنة 1971؛ وهو الآن جزء من جامعة باريس. وفي سنة 1822 إجتمعت ”الجمعية الآسيوية“ المؤسسة حديثا أول مرة، وفي السنة نفسها بدأت بنشر ”المجلة الآسيوية“.
ولمدة طويلة، كانت اللغات والآداب الشرقية لا تُدرّس في الجامعات الفرنسية وإنما في مؤسسات خاصة، كلها في باريس، وهي كل من: ”كلية فرنسا“ من سنة 1530، والمؤسسات المذكورة أعلاه، و”المدرسة العملية للدراسات العليا“ بعد سنة 1868. وحرصت كل من ”مجلة العالم الإسلامي“(19006-1926)، ووريثتها ”مجلة الدراسات الإسلامية“ (1927-) على نشر الأحداث الجارية في أنحاء العالم الإسلامي المعاصر كافة مع الجزء المهم الذي كانت فرنسا مهتمة به منذ إحتلالها الجزائر سنة 1830 حتى إستقلال الجزائر سنة 1962.
وأسس الفرنسيون أيضا مؤسسات بحثية أكاديمية في مختلف البلدان عبر البحار، منها في سبيل المثال ”المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق“ الذي تأسس سنة 1930 (وحل محل المعهد القديم لسنة 1922) الملحق بجامعة باريس، وله منشورات منتظمة حتى الوقت الحاضر. وفي سنة 1929 تم إنشاء ”معهد الدراسات الإسلامية“ جزءًا من جامعة باريس. وشكل هذا مركز الدراسات الإسلامية في فرنسا، بأعداد كبيرة من الطلبة من شمالي أفريقيا ممن بدأوا يرتادونه بعد الحرب العالمية الثانية. ولقسم اللغة العربية والإسلام في جامعة الجزائر والمؤسسات المشابهة في كل من تونس والرباط علاقة سياسية ضمن إطار المصالح الفرنسية فيما كان لا يزال في حينه ”شمالي أفريقيا الفرنسي“. ودرس أساتذة أمثال روبرت مونتان (1893-1954)، مثلا، الإسلام في هذا الإطار. ومثّل الدراسات العلمية التاريخية واللغوية الفرنسية عن الإسلام في إسبانيا وشمالي أفريقيا، مثلا، كل من ايفارست ليفي ـ بروفنسال (1894-1956)، وروجر لي تورنو (1907-1971)، وجورجز (1876-1962)، وويليام مارسايس (1874-1956). وكتب جان سوفاجة (1901-1950)، إلى جانب كتابه التاريخي، مقدمة ببلوغرافية مفيدة عن الدراسة التاريخية للإسلام.
وفي ألمانيا، تطورت الدراسات الإستشراقية نحو منتصف القرن التاسع عشر بصفتها فرعا أكاديميا من فروع المعرفة في الجامعات المؤسسة حديثا أو المنتظمة، وظلت مرتبطة بالجامعات بقوة، وغالبا ما كانت اللغة العربية تُدرّس بصفتها إحدى اللغات السامية في كليات اللاهوت. وفي سنة 1845 تأسست ”الجمعية الشرقية الألمانية“، لتستقطب كل المستشرقين الألمان؛ وكانت تنشر ”مجلة الجمعية الشرقية الألمانية“ منذ سنة 1847. واحرزت الدراسات الإسلامية نوعا من الاهمية السياسية في ألمانيا في سياق تقارب الاخيرة مع الإمبراطورية العثمانية وخلال السنوات الثلاثين الشاذة التي كان لألمانيا فيها بعض المستعمرات الإسلامية في قارة أفريقيا. ففي سبيل المثال، أولى كارل هنريش بيكر (1876-1933)، إلى جانب مؤلفه التاريخي، إهتماما بالإسلام المعاصر في تلك المناطق، في المعهد الكولونيالي الذي تأسس في هامبورغ سنة 1908. وأعطت حقبة الحكم النازي والحرب العالمية الثانية (1933-1945) ليّاً آيديولوجيا غير متوقع للدراسات الأكاديمية الألمانية. وقد نجح عدد قليل من المستشرقين الألمان، معظمهم من أصل يهودي، في الهرب إلى الخارج؛ ولقي البعض الآخر منهم حتفه أو عاش في ظل ضغط شديد. وبعد سنة 1945 توطدت الدراسات الإستشراقية في شطري ألمانيا إلى حد كبير مجددا.
وبقيت الدراسات الإسلامية في ألمانيا، الى حد كبير جدا، جزءاً من المدرسة الإستشراقية الألمانية الأقدم ذات التوجه الفقهي اللغوي والتاريخي الرصين، التي تفتقر إلى الإلتزام الإجتماعي والسياسي وتبدي إهتماما أقل نسبيا بوقائع المشهدالمعاصر. ومن المحتمل إن مدرسة المستشرقين في ألمانيا حققت أكبر درجة من الكمال الفني لما يمكن أن يُصطلح عليه علميا ”هندسة الدقة“، وهي الظاهرة التي يمكن ملاحظتها في أماكن أخرى أيضا. ومع ذلك، فلم يكن ذلك من دون ثمن: عزلة معينة من خلال الإبتعاد عن فروع المعرفة الأكاديمية الأخرى، والإنطواء عن التطورات المعاصرة وبعض الضعف لدى الباحثين من إتخاذ موقف شخصي، لأن البحث الموضوعي الرصين هو السبب الذي يعيشون من أجله، وأصبح الخيال خاضعا للتدريب الذهني. فحدثت هنا قولبة للمشكلات الأساسية للبحث، ولكن اقل بكثير جدا من المتوقع، لو أخذنا بنظر الإعتبار المدرسة الفلسفية الألمانية، وقارناها بالتغييرات المهمة التي حصلت لنماذج في فروع معرفية أكاديمية أخرى في ذلك البلد. ويا للمفارقة، فقد مال الإسلام بصفته عقيدةً ودينا، وتطورات معاصرة كذلك، إلى ان يكون مهمّشا في الدراسات الإسلامية بصفته فرعا أكاديميا من فروع المعرفة. ومع ذلك، حاول بعض المتخصصين الألمان بالدراسات الإسلامية وضع الإسلام والتاريخ الإسلامي في نطاق أوسع من التاريخ الثقافي، ومن بينهم المشار إليه في أعلاه كل من كارل هنريش بيكر وهانز هنريش شايدر (1896-1957). اما الجيل الأصغر سنا من المتخصصين الألمان بالدراسات الإسلامية فقد أسسوا إتصالا وإرتباطا أوثق بالجماعات الإسلامية الحية ومستقبلها.
أما في بريطانيا العظمى فقد تأثرت الدراسات الإستشراقية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين إلى حد كبير بالإتصال مع عدد من المناطق الإسلامية المهمة ضمن الإمبراطورية وخارجها، في بلاد فارس مثلا. وكان عدد قليل جدا من العلماء المتخصصين البريطانيين من غير الملتحقين بمؤسسات جامعية ولكنهم نفذوا ابحاثا خاصة بهم، وأحيانا كانوا يعملون بصفة موظفين مدنيين في الإدارة الإستعمارية أو السلك الدبلوماسي ولكن بصفة رحالة ومؤلفين أيضا، ومن أمثال هؤلاء ولفريد سكاون بلنت (1840-1922) وآخرين. وفي أوائل سنة 1784، أسس السير ويليام جونز ”الجمعية الآسيوية للبنغال“ في كلكتا. وأعقبتها جمعية مشابهة في بومبي. وتأسست ”الجمعية الآسيوية الملكية لبريطانيا العظمى وايرلندا“ في لندن سنة 1823؛ وكانت تنشر مجلتها ”مجلة الجمعية الآسيوية الملكية لبريطانيا العظمى وايرلندا“ منذ سنة 1834.
وتركزت الدراسات الأكاديمية للغات العربية والفارسية والتركية في جامعات كامبردج واوكسفورد وأدنبرة، حيث كانت توجد المدارس القديمة في هذا الحقل. وتأسست ”مدرسة لندن للدراسات الشرقية“، الملحقة بجامعة لندن، بعد الحرب العالمية الأولى واُعيد تسميتها بعد الحرب العالمية الثانية إلى ”مدرسة لندن للدراسات الشرقية والأفريقية“ (SOAS)، وهي تضم قدرا واسعا من خبرة المستشرقين والخبرة الميدانية. وأسست بريطانيا بعض المعاهد الأكاديمية عبر البحار أيضا في كل من أنقرة وعمّان وبغداد وطهران التي حفزت البحث الأثري وتاريخ الفن تحديدا.
وجاءت علاقة التاريخ الهولندي العابر للبحار بالعالم الإسلامي من خلال إتصالاتٍ مع اندونيسيا. فتأسست أول جمعية عالمية للدراسات الشرقية، وهي جمعية باتافيا للآداب والعلوم، في باتافيا (جاكارتا) سنة 1778، وكادت أن تنشر مجلتها الخاصة. وفي الدراسات الشرقية الهولندية، مثلما في أماكن أخرى، يمكن إجراء تمييز بين الدراسات الشرقية الأكاديمية الهادفة الى الدراسات العلمية الأكاديمية وبين دراسة وتدريس الشريعة والنظم واللغات الإسلامية وعلم الأجناس البشرية لمصلحة الإدارة الإستعمارية. وإمتزجت المدرسة الثانية مع المدرسة الأولى في شخصية كرستيان سنوك هورغرونج المهيمنة (1857-1936)، الذي كان، منذ عدد من السنين، المستشار الرسمي للحكومة بشأن القضايا الإسلامية.
بخصوص روسيا، فقد بدأ الشرق مع وجود التتار، الذين اعتنقوا الإسلام منذ ستينيات القرن الثالث عشر. وكانت المؤسسات الرئيسة للدراسات الشرقية في سانت بطرسبورغ، ومن ثم في العاصمة، وهي كل من: ”المتحف الآسيوي“، الذي تأسس في سنة 1818، و”معهد اللغات الشرقية“، الذي تأسس بصفته جزءا من القسم الآسيوي في وزارة الخارجية سنة 1823. وتم تأسيس كلية للدراسات الشرقية في سانت بطرسبورغ أيضا في سنة 1854. وكانت هذه المدينة تحتفظ، ولا تزال، بمجموعة مخطوطات مهمة.
وقام فكتور رومانوفتش روسين (1849-1908) بتأسيس مدرسة للدراسة الأكاديمية للغة العربية في روسيا. وكان من أبرز تلامذته المستعربين إغناتي يوليانوفتش كراتشوفسكي المذكور آنفا الذي، من خلال كتابه ”بين المخطوطات العربية“ (صدرت ترجمتة الإنكليزية سنة 1953)، قرّب الدراسات الشرقية إلى عامة الناس، حتى في الغرب. بيد إن روسيا إرتبطت بالإسلام التركي على نحو أكثر قوة بسبب وجود علاقات مباشرة جدا وقرون طويلة من التاريخ المشترك. وكان الرائد في هذا المجال فاسيلي فلاديميروفتش بارتولد (1896-1930)، وهو أيضا أحد طلاب روسين.
وتغيرت الدراسات الشرقية الروسية على نحو كبير بعد ثورة 1917، وبدأت تخضع للقيود الآيديولوجية تدريجيا. وأخذت الدراسات الإسلامية، مثل الإسلام نفسه، تتقلص بشدة منذ أواخر العشرينيات فصاعدا، جزءا من عملية تحول شاملة لاستئصال الدين. ومع ذلك، ففي حقل اللغويات، والدراسات الأدبية والتاريخية، مضى البحث قُدما. وبعد الحرب العالمية الثانية تأسس معهد الدراسات الشرقية في موسكو جزءا من الأكاديمية السوفيتية للعلوم، وأصبح معهد الدراسات الشرقية الموجود في لينينغراد فرعا من معهد موسكو.
وفي معظم الدول الأوربية الأخرى، أيضا، وطدت مدارس البحث الإسلامي نفسها خلال الحقبة قيد الدرس. وكان البارزون في المدرسة الإيطالية كل من ليوني كايتاني (1869-1935)، وإغنازيو (1844-1935)، وميخائيل أنجيلو (1886-1946)، وجويدي، وكارلو الفونسو نالينو (1872-1938)، وجورجيو ليفي ديللا فيدا (1886-1967). أما البارزون في المدرسة الإسبانية فقد كانوا كلا من جوليان ريبيرا تاراغو (1858-1934)، وميغول آسن بالاسيوس (1871-1944). ولابد من إيلاء إهتمام خاص لآرمينيوس فامبيري (1832-1918) في هنغاريا، وآدم متز (1869-1917) في سويسرا، وتور أندريه (1885-1946) في السويد وآرماند آبل (1903-1973) في بلجيكا.
وفي الولايات المتحدة، ظهر إهتمام بالدراسات الشرقية على الساحل الشرقي في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. وتأسست ”الجمعية الشرقية الأمريكية“ في سنة 1842 وبدأت بنشر ”مجلتها“ في سنة 1880. وبدأت الجامعات بتدريس الدراسات الشرقية في القرن التاسع عشر، ولكن الدراسات الإسلامية تلكأت نوعا ما. وبعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت جامعة برنستون المركز الرئيس لدراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية، التي طورها فيليب حتي (1886-1978)؛ وتمكنت مكتبة الجامعة من الحصول على مجموعة مخطوطات كبيرة. أما المراكز الأخرى للدراسات الشرقية التي كانت تُدرَّس فيها اللغات الإسلامية فهي كل من: جامعة هارفرد، والجامعات في كل من فيلادلفيا، وشيكاغو، وبيركلي (UCB). ومنذ الحرب العالمية الثانية، كان تدريس اللغات الإسلامية ضرورة حيوية. وتطورت برامج دراسات منطقة الشرق الأوسط، من ضمنها التاريخ الإسلامي، في عدد من الجامعات الأمريكية، التي التحق بها علماء أوربيون كبار أمثال غوستاف ادموند فون غرونباوم، وهاملتون اليكساندر روسكين جب وبرنارد لويس. وحاولت مكتبة الكونجرس، على نحو مستمر، الحصول على كل المطبوعات التي كانت تصدر في الدول الإسلامية، وهي تضم المجموعة الأكثر أهمية من المؤلفات بشأن هذا الموضوع في العالم.
وتوبعت دراسات إسلامية مشابهة، إستنادا إلى فقه اللغة والتاريخ، في بعض المؤسسات الغربية في الدول الإسلامية. فإلى المؤسسات الفرنسية في دمشق وشمالي أفريقيا، التي ذكرناها سابقا، لابد أن نضيف ”جامعة القديس جوزيف اليسوعية في بيروت“، التي تم الإعتراف بها في سنة 1881، وهي تضم ”الكلية شرقية“ (بين سنتي 1902-1914) و”معهد الاداب الشرقية“ منذ سنة 1937 فصاعدا. وهنا كان يعمل الأستاذ البلجيكي هنري جَي. لامنز (1862-1937). وكانت اللغة العربية والتاريخ الإسلامي يُدرسان لمدة طويلة في الجامعة الأمريكية في بيروت، التي كانت فيما سبق الكلية البروتستانتية السورية، والتي تأسست سنة 1863. وكانت الدراسات الإسلامية تُتابع في مؤسسات بريطانية عدة في الهند البريطانية، في لاهور مثلا. وطُبعت الكثير من النصوص في كل من القاهرة وحيدر آباد وغيرهما من مراكز الدراسات الإسلامية في الدول الإسلامية.
قديسة المطر- ♛ الفخامة ♛
- جائزه تسجيل للعام 10 اعوامتاج 100 موضوعجائزه عدد النقاطتاج المواضيععدد المشاركات بالمواضيع المميزهوسام التميزجائزة الاعضاء المبدعونجائزه المواضيع امميزه
- عدد الرسائل : 1133
العمل/الترفيه : الفكر..
الابراج :
الموقع : https://stst.yoo7.com
احترام القانون :
المزاج : تذكرني بكــره
نقاط : 17000
السٌّمعَة : 13
تاريخ التسجيل : 06/07/2009
تعاليق : يغــار [ قلبـي ] كثر ماتحبك الناس
ومن طيبك أعذر كل منهو ][ يحبـك ][
مدام كل [ الناس ] بـك ترفع الراس
أنا أول أنسان وقف ][ يفتخر بك ][
رد: المستشرقون ترجمة د. انيس عبد الخالق محمود
ومنذ البداية، قدّم عدد من الباحثين المستقلين أبحاثا، غالبا في فروع معرفية غير فقه اللغة، وفي تحليل المصدر النصّي والتاريخ الوثائقي الذي كانت تقدمه الجامعات في ذلك الوقت. وقد اثبت هذا العمل أهميته الحيوية للدراسات الإسلامية. ودرس البعض منهم المصادر غير النصيّة مثل علم دراسة النقوش العربية (أمثال السويسري ماكس فان بيركم، 1863-1921)، وعلم النميّات والآثار، والفن والهندسة المعمارية (أمثال البريطاني كبل ارشيبالد كاميرون كريسوِل، 1879-1974). وإستكشف آخرون المجتمعات الإسلامية المعاصرة من خلال دراسات إثنوغرافية أمثال تلك الدراسات التي قام بها كرستيان سناوك هورغرونج المذكور آنفا في كل من مكة، وآتشيه وكاجولاند؛ والفرنسي إدموند دوته (1867-1926) في كل من المغرب والجزائر؛ والفنلندي إدورد ويسترمارك (1862-1939) في المغرب. وبعد الحرب العالمية الثانية تطور ميدان العمل الأنثروبولوجي على نحو سريع وأصبح من العسير تصور الدراسات الإسلامية من دون الإسهامات التي تقدمها تلك العلوم والعلوم الإجتماعية الأخرى.
3. تقييمات نقدية للمستشرقين
خضعت الدراسات الشرقية عموما، والدراسات الإسلامية تحديدا، المستندة إلى البحث الأكاديمي، ومن ثم إلى تحديد الأساليب النقدية الفيلولوجية والأدبية والتاريخية، للتقويم النقدي والنقاش خلال العقود الماضية. وكان إسهام الدراسات الإسلامية في معرفتنا عن الإسلام والمجتمعات والثقافات الإسلامية، وإبستمولوجيتها وافتراضاتها، ومركزيتها الثقافية ومضامينها الأخلاقية موضع نقاش على نحو دقيق. وتم توجيه نقد واضح سواءً من العلماء الغربيين، ولاسيما علماء الإجتماع الذين يدرسون المجتمعات والثقافات غير الغربية، أو من المسلمين على مستويات مختلفة. وسوف نقوم بمراجعة سريعة لبعض الحجج الرئيسة المتضمَّنة في هذا النقد ونبين الوضع التناقضي الذي يجد فيه المستشرقون، بصفتهم جسرا بين الثقافات، أنفسهم، حتى وإن لم يكونوا أنفسهم مدركين دائما لهذا الشئ.
أ. النقد البحثي
مثلما لاحظ مكسيم رودنسون (في كتابه ”سحرُ الإسلام“، باريس 1980؛ والترجمة الإنكليزية له بعنوان ”أوربا وصوفية الإسلام“، سياتل 1987) وغيره، فإن ظهور الدراسات الشرقية في أوربا وتطورها كان منسجما مع التوجهات الفكرية السائدة خلال القرن التاسع عشر، التي تركت بصماتها مدة عقود على مثل هذا النوع من الدراسات. وكانت إحدى الأفكار السائدة آنذاك، التي تُعزى إلى حد ما إلى الحماسة للدراسات الشرقية، هي إن العامل الروحي، والديني تحديدا، على النقيض من الغرب، كان هو الغالب في الثقافات الشرقية. ونتيجة لذلك، كانت الدراسات الإسلامية، حتى وقت متأخر، مشوبة بنوع من المثالية لأن كثيرا من الأهمية إرتبطت بتأثير الدين، ولاسيما الأفكار والعادات الإسلامية عن المجتمعات الإسلامية، في حين اُهملت العوامل التقنية، والإقتصادية، والإجتماعية العامة. والفكرة الأخرى التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر هي إمكان تصنيف الناس طبقا للأعراق، لكل عرق خصائص ثقافية ونفسية مُلازمة. على هذا الاساس، فقد فُسِّرت ديناميكيات التاريخ الإسلامي إلى حد كبير على إنها صراع بين الحركات الدينية أو صراع بين الأعراق، ولاسيما العرقين السامي والهندو ـ أوربي. أما الفكرة السائدة الثالثة فهي إنه في الوقت الذي كانت تتطور فيه الدراسات الشرقية فإن خصائص معينة للغات معينة مثل اللغة العربية أو عائلة لغوية مثل اللغات السامية عكست نفسها في مظاهر ثقافية محددة لمتحدثي تلك اللغة. وفي حالة الإسلام، فإن ذلك كان يعني إن الأوربيين قد أشروا توجها لتفسير الإسلام والمجتمعات الإسلامية من منطلق ما تعلموا إنه حقائق غير قابلة للتغيير عن الدين الإسلامي والأعراق السامية وغيرها، واللغات السامية وغيرها من اللغات والأعراق. وبقيت مثل هذه الأفكار مقبولة من بعض المستشرقين حتى بعد الحرب العالمية الثانية.
كانت حقيقة تكوّن الدراسات الشرقية في ذلك الوقت من دراسة اللغات والنصوص إلى حد كبير، تعني إن المستشرقين كانوا يواجهون صعوبات في إستخلاص النتائج بشأن الحقائق الإجتماعية وغيرها من الحقائق من تلك التي كانت تعتمل وتنشأ ضمنها تلك النصوص. وكان من الممكن إعادة تركيب الترتيب الزمني للأحداث السياسية المذكورة في النصوص التاريخية، ولكن كان من الأصعب إستخلاص الإستنتاجات مثلا بخصوص التاريخ الإجتماعي للمجتمعات الإسلامية والطريقة التي عملت وتعمل بها تلك الاحداث. وفي الوقت الذي بالغ فيه المستشرقون بدور الدين، والعرق واللغة، فإنهم استخفوا، إلى حد كبير، بل وحتى رفضوا الاعتراف مثلا، بدور بنىً ديموغرافية وإثنية خاصة، وبدور الأسباب الإجتماعية والإقتصادية في توضيح حقائق وتطورات خاصة. بإختصار، بسبب إهتمامهم بالإسلام وما يميز المجتمعات الإسلامية عن المجتمعات الغربية تحديدا، مال المستشرقون إلى التأكيد على دقائق الأمور وتجسيد الإسلام على إنه مسألة تفسيرية. ومالوا ايضا إلى تجاهل الأشياء الكثيرة التي يشترك بها البشر، والمجتمعات والثقافات وإهمال الأسباب العامة بصفتها تفسيرات لتطورات معينة في المجتمعات الإسلامية.
فضلا عن ذلك، فإن الوسيلة الخاصة بالمستشرقين، المرتبطة أو في الأقل المتوافقة مع ثقافتهم بالتعامل مع النص، منعتهم من تفسير التطورات في العالم الإسلامي على نحو صحيح. وقد وجد معظمهم نفسه بمسافة بعيدة جدا عن العالم الملموس الذي درسه، ومن ضمنه المسافة النفسية والإجتماعية عن الناس الذين شكلتهم العلاقات السياسية والحقب الإستعمارية. والحقيقة إن المستشرقين لم يكونوا يعرفون عن المجتمعات الإسلامية المعاصرة أكثر بكثير مما يعرفه غيرهم من الغربيين. وفي تفكيرهم فإنهم غالبا ما كانوا يميلون، على ما يبدو، إلى قبول المزاعم والإفتراضات السائدة في مجتمعهم. وبالنتيجة، فلم يكن المستشرقون محترفين كثيرا جدا مثلما كان الرحالة والصحفيون، والمبشرون والتجار، والساسة والخبراء العسكريون الذين، أياً كانت نزعاتهم الطبيعية، قدموا ملاحظات واقعية ومعرفة عملية عن المجتمعات الإسلامية المعاصرة، التي غالبا ما كانوا على علاقة معها لسنوات عدة.
كانت بؤرة إهتمام معظم المستشرقين وطراز بحثهم خلال المرحلة قيد الدرس تقصي الحقائق والبحث عن بنىً دائمة. ونادرا ما كانوا يسعون إلى البحث عن تماسك سببي أو بنيوي أعمق بين الحقائق المعروفة؛ ونادرا ما كان يتم إستنطاق هذه الحقائق بهدف التوصل إلى مضامينها الإجتماعية؛ ونادرا أيضا ما كان يتم التقصي عن أنماط المعاني التي توصلها هذه الحقائق مجتمعةً إلى الناس المعنيين. وأيا كان الإهتمام الموجه إلى تفسيرات هؤلاء الناس بشأن هذه الحقائق، فقد كان هناك ميل معين في الغرب وبين بعض المستشرقين نحو المعاني الغريبة، والبالية، والشعرية لما كان يعدّ عناصر ”دينية“.
وعلى الرغم من إن المستشرقين كان بمقدورهم، مبدئيا وطبيعي جدا، الإصغاء إلى أناس الثقافة والمجتمع الذيدرسوه، وفهم ما يحتاجوه أو ما كانوا يريدون نقله والدفاع عن مصالحهم، إلا إن معظمهم إمتنعوا عن فعل ذلك. لقد كان إهتمامهم الرئيس منصبا على العمل الأكاديمي. فضلا عن ذلك، كانت هناك فكرة واسعة الإنتشار خلال الحقبة الإستعمارية مفادها إن المقاومة الطبيعية للهيمنة السياسية والإقتصادية الغربية في ذلك الوقت تُعزى إلى الإسلام (”التعصب الإسلامي“، و ”الجامعة الإسلامية“، الخ) بدلا من النقد الذاتي القائل إنها كانت تعزى إلى التغلغل المتنامي للقوة الغربية.
ويا للمفارقة، فقد أصبحت المستعمرات، فضلا عن المستشرقين أنفسهم، ضحايا الهيمنة الغربية، التي تسببت في تمزيق العلاقات الطبيعية بين الناس، ومنعت الشعوب والمجتمعات الإسلامية، وثقافتهم ودينهم من أن يُدركوا ويُفهموا كما يفهمون هُم أنفسهم. ووضعت العلاقة غير السوية بين العالمين الغربي والإسلامي المستشرقين في موقف صعب، لأن علاقة هذا النوع أعاقت البصيرة الصحيحة بدلا من تعزيزها. ولم يدرك البعض الطبيعة المعقدة لوضعهم، وبدلا من أن يحاولوا بناء جسور بين الشعوب والثقافات وتصحيح المفاهيم الخاطئة في الموطن الذي تكمن فيه، مالوا لإضفاء الشرعية على الهيمنة الغربية والدفاع عنها من دون سؤال. من جانب آخر، غالبا ما كان أولئك المستشرقون الذين أيدوا الدفاع عن الناس يسوغون ذلك بلغة دينية أو آيديولوجية من الصعب أن يفهمها الآخرون. ومع ذلك، فإن معظم الذين يعملون في خدمة المؤسسات الأكاديمية الغربية لدراسة الإسلام والمجتمعات الإسلامية، لابد وأن أدركوا إن مسار الأحداث غير قابل للعكس وإن شعوب الشرق مقدرٌ لها أن تخسر أمام الغرب.
ب. الإستجابات النقدية الإسلامية
بعد تأسيس الحقل العلمي للدراسات الإسلامية في أوربا مباشرةً، أصبح هناك باحثون من دولٍ إسلامية مهتمين به أيضا. وتعاون الكثيرون منهم مع الباحثين الغربيين في دراسة المخطوطات ونشرها. وإلتحقوا بالجامعات الغربية، وأسهموا في مشاريع بحثية أوسع، وعُينوا للتدريس وللقيام بالأبحاث في المؤسسات البحثية الغربية. وفي الوقت الذي أثار فيه القدر المعرفي الهائل الذي قدمه المستشرقون إعجاب المسلمين من كل المذاهب، فإنه أثار نوعا من القلق أيضا لأن هذه المعرفة قُدِّمت للغربيين أساسا. فضلا عن ذلك، فهل كانت هذه المعرفة معرفةً صحيحة؟ تزعم كافة الأدبيات المتداولة في الدول الإسلامية إنها ليست كذلك، وتلمح إلى إن المستشرقين، إلى حد ما، شوهوا عن عمد أو بسبب المنافع المادية، حقيقة الإسلام والمجتمعات والثقافات الإسلامية.
وبما إن الثقافة والدين قيد البحث هي ملكٌ لهم، فإن تعاون الباحثين والعلماء من الدول الإسلامية قد أثبت ضرورته وبداهته كذلك، إذ تمكنوا من الإسهام في الدراسات الإسلامية على نحو كبير، ولاسيما عندما كانوا يعملون في الدول الغربية. كما تمكنوا من تصحيح بعض الأخطاء التي إرتكبها المستشرقون في تعاملهم وتفسيرهم للمواد. وفي حالة البيانات الدقيقة، تمكنوا من إجراء مناقشات علمية، وهي جوهر البحث الصحيح.
ومع ذلك، فإن الإنتقادات الإسلامية ذهبت إلى ابعد من ذلك، فدخلت في جدل فيما يخص بعض الأفكار العامة للمستشرقين، وتحديد مواقفهم تجاه الإسلام وتقويم الأحكام التي مرروها عليه. وذهب البعض إلى حد إنكار الصحة العلمية، في الأقل جزئيا، لأعمال كل المستشرقين، مستخدمين بذلك حججا كاسحة لا يمكن إثباتها ولا دحضها لابد أن يُنظر إليها بصفتها جزءا من إحتجاج أوسع ضد الهيمنة الغربية. ويبدو إن المستشرقين أنفسهم اُصيبوا بالدهشة لما عدّوه إنعداما لتثمين عملهم المضني اكثر مما هو هجوم على مهنتهم ودراستهم النقدية عموما. ومع ذلك، أدى الجدل الناشئ إلى إدراك اكبر لمشكلاتٍ ذات طبيعة إنسانية وفنية مألوفة لدى علماء الأنثروبولوجيا الثقافية، لأنها تحدث في دراسة الثقافات والأديان الأخرى عموما.
وتماشيا لتفسير إي. رودولف، الذي يدين له الكاتب الحالي كثيرا في مقاله هذا، تقدم الإستجابات النقدية العربية الإسلامية للإستشراق، ولاسيما في مصر (إذ يبدو إن الوضع أقل إضطرابا في أماكن أخرى)، التطور التاريخي الآتي:
أ. جدالات بين المصلحين المُحدِثين والأوربيين الذين يكتبون عن الإسلام (جمال الدين الأفغاني إزاء إرنست رينان، ومحمد عبده إزاء غابرييل هانوتو).
ب. ردود أفعال نقدية من المصلحين المسلمين وعلماء الأزهر ضد الدراسة العلمانية غير الإسلامية في الغرب المعنية بالإسلام (محمد رشيد رضا إزاء إي. ديرمنغام، والحملة ضد عضوية أي. جَي. فينسنك في مجمع اللغة العربية الملكي في القاهرة). وبموازاة ذلك هناك ردود أفعال عنيفة، غالبا من الناس أنفسهم، تجاه البحث ”العلماني“ الذي يقوم به الباحثون المسلمون، في جامعة القاهرة مثلا (الهجمات ضد طه حسين ومحمد حسنين هيكل).
ت. ردود أفعال نقدية تجاه الدراسة الغربية للقرآن والنقد التاريخي لأدب الحديث النبوي (مصطفى السباعي ومحمد الغزالي في هجومهما على مؤلّف غولدزيهر)، بعد الحرب العالمية الثانية.
ث. الإتهامات القائلة إن المستشرقين عموما، والبعض منهم على وجه التحديد، متورطون في هجوم أوسع على الإسلام والمجتمعات الإسلامية، بالتحالف مع الإستعماريين والمبشرين المسيحيين والصهاينة من يهود وغير يهود.
ومثل هذه الهجمات بدأت في العالم العربي (في سبيل المثال من عمر فرّوخ، ومحمد البهائي، وأنور الجندي، وبنت الشاطي، ومالك بنّابي. ويُنظر للإستشراق هنا على إنه عدو ايديولوجي للإسلام، ومنذ سنة 1960 فصاعدا أصبح الجدل حوله ذا طبيعة آيديولوجية واضحة.
ج. إنتقاد أكثر دهاءً للمستشرقين من خلال التحليل الفكري للمفاهيم السائدة في الغرب عن الشرق والإستشراق والشرقيين، التي يزعم إن المستشرقين مسؤولون عنها إلى حد ما أو إنهم ضحايا لها. ويعدّ إدورد وديع سعيد، وهو عربي غير مسلم، أحد أهم المناصرين لهذا الجدل الناشئ.
وبلغت المشاعر أقصاها عندما تعرضت الإدانات الدينية الإسلامية للأذى عن طريق البحث الغربي العلماني. ويقدم تحليلٌ مختصر كتبه رودولف بيترز إستجابات نقدية قدمها مسلمون عرب تجاه الدراسات الإستشراقية عن الإسلام، دفاعا عن الدين الإسلامي. وطبقا لهذه الإستجابات، قُسِّم المستشرقون على مجموعتين. تتكون المجموعة الأولى من أولئك المستشرقين الذين يقيّمون الإسلام على نحو صحيح (المنصفون)، أي إنهم يتحدثون إيجابا عن الإسلام أو يمجدونه. ومع ذلك، فهم يعانون من معرفة غير كافية وعدم مقدرة فكرية.
أما المجموعة الثانية فتتكون من أولئك الذين لا يقدّرون الإسلام على نحو صحيح (غير المنصفين). وتتكون هذه المجموعة من أربع مجاميع ثانوية: رجال الدين المسيحيون (الساعون لتحويل المسلمين إلى المسيحية)، والصهاينة (الساعون إلى إضعاف الإسلام بهدف تقوية الصهيونية سياسيا وآيديولوجيا)، والإستعماريون (العاملون في خدمة الحكومات الإستعمارية)، و”الملحدون“، من ماركسيين وماديين (الذين يهدفون إلى إضعاف دين وأخلاق المسلمين والبشرية عموما، بهدف إستعبادهم ذهنيا وأخلاقيا). وهذه المجموعة الثانية تشكل حركة متماسكة تحاول تحقيق ما تسعى إليه الحروب الصليبية من خلال العلم تحت لواء الدين: ألا وهو السيطرة على المسلمين.
ويعدد بيترز بعض المواضيع النموذجية، طبقا لهذا الأدب، التي يتقصى فيها المستشرقون في جهودهم من أجل الحطّ من قدر الإسلام وتشويه سمعته: الإنعدام المزعوم لأصالة الإسلام، والنقد النصّي للقرآن والنقد التاريخي للسُنّة (أدب الحديث النبوي)، والتنوع في الإسلام، ووضع الأقليات غير الإسلامية، والتركيز على مراحل التدهور بدلا من مراحل النمو في التاريخ الإسلامي، والروايات المغرضة عن الوصفات الإسلامية مثل الجهاد، الخ.
وفي الوقت الذي يقرّ فيه بيترز إن بعض العبارات التي يُطلقها المستشرقون قد يُنظر إليها بأنها مُهينة للقراء المسلمين عند تحليلها تحليلا أوثق، فإنه يشدد على إن الإتهام القائل إن أغلبية المستشرقين قد تعاونوا مع الحكومات الإستعمارية إتهام غير صحيح: فبصفتهم علماء لغويين، فقد اُقصيوا بعيدا جدا عن السياسة المعاصرة. ومن ثم فهو يُظهر إن أحد الأسباب العميقة للتشهير بالمستشرقين وبالدراسات الإستشراقية عموما أحادية تلك الدراسات التي يقوم بها الغربيون ـ أي، كما يُزعم، العملية أحادية الجانب وغير القابلة للنقد الذاتي التي قام بها العلماء الغربيون على الشعوب الأوربية الصبورة بالمعنى الأصلي للكلمة (”مُعانون“). وهذا أيضا هو السبب الأعمق وراء قيام النقاد المسلمين بمطابقة الإستشراق مع الإستعمار: فكلاهما يستبعد قيام تعامل متساوٍ بين طرفين ويلمح إلى إن أحد الأطراف يعدّ الآخر ”هدفاً“ ويتعامل معه على هذا الأساس. وربما بسبب توقعاتهم العالية، يشعر النقاد المسلمون بقوة إن المستشرقين أساءوا فهمهم على نحو عميق و، كما يميلون لفعل ذلك، مقصود. وإذا ما تعمق الشك وتحول إلى عدم ثقة، فإنه قد يُسفر عن رغبة في إعادة دفع الثقافة والدين الغربيّين نحو ما يُفترض إن الغرب يحاول فعله تجاه الثقافة والدين الإسلاميّين. وكحل ممكن، يقترح بيترز أن يتعاون الباحثون الغربيون المتخصصون في الإسلام مع الباحثين المسلمين.
وقد تكررت الإنتقادات التي وُصفت هنا في مرات عدة وفي مستويات مختلفة. في سبيل المثال، قيام الملك فاروق بإلغاء تعيين أي. جَي. فينسنك (1933) لمجمع اللغة العربية الملكي في القاهرة سنة 1934 بضغط من النشطاء الإسلاميين في القاهرة، لأن مقالته ”إبراهيم“ في الطبعة الأولى من الموسوعة الإسلامية ذكرت بأن القرآن يروي ”إسطورة“ عن إبراهيم، وليس حقيقته التاريخية (أنظر الملف الذي كتبه لويس ماسنيون عن هذه المسألة في مكتبة جامعة ليدن). أما الهجمات الآيديولوجية على المستشرقين فقد شُنّت تحديدا من أناس لا يعرفون ماهية البحث العلمي، أما أولئك الذين يعرفون أفضل فليسوا قادرين على التعبير عن أنفسهم غالبا بسبب الضغوط السياسية والإجتماعية.
ويعبر المفكرون المسلمون الذين درسوا في الغرب عن إنتقاداتهم على مستوىً آخر. فالمستوى المتكرر الوحيد الموجّه للمستشرقين هو إفتقارهم للوسائل العلمية الضرورية للحصول على معرفة كافية أو صحيحة عن المجتمعات الإسلامية والإسلام، في سبيل المثال، الكفاءة في العلوم الإجتماعية. وإن النصوص التي قرأوها لم تتح لهم التوصل إلى الإستنتاجات الصحيحة بشأن المجتمعات والثقافات الإسلامية. أما النقد الثاني فهو إنهم يعرضون موضوعية وقحة، أو عديمة التعاطف أو كراهية مبطنة، أو حتى أبعد من ذلك إلى حد الكراهية تجاه الإسلام والمجتمعات الإسلامية. ويُزعم إن المستشرقين يفتقرون إلى التواضع وليست لديهم قدرة او رغبة كبيرة للفهم على نحو صحيح. والنقد الثالث الموجه ضدهم هو إفتقارهم للإهتمام، ناهيك عن التعهد، بأي تحسين حقيقي في وضع الشعوب أو أي تطوير حقيقي للمجتمعات التي يدرسونها. بإختصار، يبدو إن ما يعترض عليه النقاد المسلمون، فوق ذلك كله، هو ذلك الموقف غير الإنساني وغير التواصلي إلى حد ما الذي نجده في الغرب وبين المستشرقين. ففي الوقت الذين يزعمون فيه إمتلاكهم معرفة صحيحة، فإن أبحاثهم في الحقيقة تُستخدم من جانب الوكالات السياسية والآيديولوجية وتؤدي إلى إذلال انسانية المسلمين وتحط من شأن دينهم، وهو أسمى القيم عندهم.
وتتضح السذاجة النسبية لكثير من المستشرقين بشأن حالتهم التناقضية ووضعهم المعقد بصفتهم حلقات وصلٍ بين الثقافات تحديدا في ردود أفعالهم العاطفية من خيبة أملٍ وغضبٍ تجاه مثل هذه الهجمات. فهم يشعرون، على الرغم من نياتهم الحسنة، وعلى نحو مبهم تماما، إن عملهم العلمي غير مفهوم، ناهيك عن إنه غير مقدّر، بل وحتى يُساء تقديمه عن عمدٍ من الناس الذين يدرسون عنهم والذين يزعمون إنهم يقدمون عنهم معرفة موضوعية.
وهكذا، فحالات سوء التفاهم موجودة لدى الطرفين.
ج. الدراسات الإسلامية بصفتها خطرا: التقاء الثقافات
من خلال الطريقة التي يميز بها المستشرقون عملهم والطريقة التي مالوا للتصرف بموجبها تجاه الإستجابات النقدية، يتضح إن العلماء في الدراسات الشرقية عموما لم يكونوا مستعدين لمشكلات التفاعل الثقافي التي واجهوها والتي أصبحوا منغمسين بها. لقد كانت لديهم فكرة ضئيلة لما يمكن أن يحدث عندما بدأوا، بإسم العلم، بنشر أشياء أساءت لقيمٍ ليست موجودة في مجتمعهم وإنما في مجتمع حي آخر وثقافة حية أخرى. وكانت لديهم فكرة ضئيلة أو إهتمام ضئيل من إنهم يمكن أن يسيئوا بذلك إلى أناس أصبحوا متحسسين تجاه أية هجمات ضد ما كانوا يشعرون إنها معاييرهم وقيمهم الأساسية، بالأحرى هويتهم، وهم غالبا ما يرون مثل هذه الهجمات في أماكن أخرى.
ومن خلال الإستجابات الموصوفة يتضح أيضا إن عددا قليلا جدا من الناس، ضمن المجتمعات الإسلامية في ذلك الوقت، عرفوا أو فهموا ما كان يفعله الغربيون والمستشرقون تحديدا، وفهموا بدرجة أقل ما كان بمقدور المستشرقين معرفته علميا وما هي حدود علمهم، وأين يبدأ عالم آرائهم الخاصة. ولو أخذنا بنظر الإعتبار إنعدام الإتصال اليومي الاعتيادي، فإن كثيرا من الشك الطبيعي للأجانب الذين يريدون معرفة مجتمع أجنبي لغايات وأغراض غامضة، قد اُسقط على المستشرق في حالات التوتر أو الصراع السياسي.
وفي الجدل الذي تلا ذلك بشأن ”الإستشراق“، يكون المنظور المحدد الذي يُجري فيه المستشرقون دراساتهم على المحك. وبالنتيجة، فالأمر يتطلب نوعا من أنواع التأمل الجوهري، ولذلك يبدو إن كتاب إدورد وديع سعيد ”الإستشراق“، بسبب لهجته الثرثارة! الاستفزازية، لم يفتح سوى نصف الباب. وليس ثمة سبب يفسر لنا لماذا لا يُستبدل مفهوم ”الشرق“ (Orient) بمفهوم آخر اقل غموضا، مثلا، ”شعوب وثقافات آسيا وأفريقيا“. وليس ثمة سبب أيضا يفسر لنا أيضا لماذا لا يُنظر إلى المناهج الفيلولوجية والتاريخية ضمن إطار أوسع متعدد الرؤى يكون فيه، مثلا، دورٌ تؤديه لا للعلوم الإجتماعية، والأنثروبولوجيا الثقافية تحديدا، فحسب، وإنما لدراسة الدين أيضا. ومرة أخرى، فإن دراسة المجتمعات الحية وتطلعاتها، فضلا عن أنظمة معاييرها وقيمها المحدِدة، يمكن أن تجني على نحو هائل من تعاون العلماء الذين جاؤوا هم أنفسهم من تلك المجتمعات وتربوا في التقاليد التي نتحدث عنها. ومرة أخرى أيضا، فمن أجل دراسة المجتمعات المعاصرة فمن الإلزامي أن يكون للعلماء حرية الوصول إليها، وأن يلتقوا بالناس وأن يعملوا سوية مع غيرهم من العلماء من الدول المعنية.
ومن المشكوك فيه أيضا أن يستطيع أي باحث، سواءً في العلوم الإنسانية أو الإجتماعية، من ضمنها التاريخ والدين المقارن، أن يكون مُرضيا حينما لا يأخذ بنظر الإعتبار وجهات نظر وقيم الناس قيد الدراسة. فمثلا، إن أي نوع من أنواع البحث العلمي الإجتماعي يجسّم البشر ليتلاءموا ضمن نموذج بحثي معين يبقى محددا ضمن مقاييس النموذج المُطبّق. ولا يمكن الادّعاء انه يوفر معرفة كثيرة بشأن مجتمعٍ أو ثقافةٍ ما خارج حدود النموذج المعين الذي تم إختياره أو الحالة التجريبية التي تم تحليلها.
نتيجة لذلك، فإن البحث لغرض معرفة المجتمعات والثقافات الشرقية، كما هو الحال مع كل المجتمعات والثقافات الأجنبية، يتطلب نظرة ثاقبة في الحدود المفترضة وغيابا لأية رغبة في الهيمنة. وتتطلب المغامرة في الدراسات ذات الثقافات المتداخلة أن يتخذ الباحث خطوة شخصية بمغادرة عالمه الخاص ولو مدة من الزمن، وأن يصل إلى عالم أناس آخرين، يكون الإتصال الحقيقي مطلوبا لتحقيقه. وفي العلاقات المعقدة بين أناس من مجتمعات وثقافات مختلفة، فإن المستشرقين، مثل الأنثروبولوجيين، ينتسبون، في أفضل الأحوال، إلى تلك القلة القليلة التي، لا ترتبط بأية ولاءات لأي طرف أساسا، لديها القدرة مبدئيا على السمو فوق صراع المجتمعات والثقافات، وفوق مسألة الأديان على مستوىً شخصي. ويعدّ التقصير في الوساطة من مخاطر المهنة، ولكن يُتعلم منه أحيانا.
د. الدراسات الإسلامية للثقافات والأديان الأخرى
ما أن أبدى المستشرقون الغربيون إهتماما بالحضارة والدين الإسلامييّن، بدأ العلماء (الباحثون) المسلمون مؤخرا يطورون إهتماما متزايدا في التاريخ المشترك بين العالمين الإسلامي والغربي في القوى المختلفة التي شكلت التاريخ الأوربي مثلا. فبعد بضعة روايات لرحلات خلال الحقبة الوسيطة، ”إكتُشِفت“ الثقافة الأوربية أولا من لدن الأتراك العثمانيين والعرب، ومن طلابٍ من دول إسلامية يدرسون في أوربا تحديدا. وقد توبع هذا الإهتمام الآن من لدن باحثين متخصصين. وكان مفكرون مسلمون قد أظهروا مسبقا، خلال الحقبة الوسيطة، إهتماما معينا في الثقافات والأديان الأخرى غير الإسلام، وربما يبرز هذا الإهتمام مجددا.
4. التقدم في الدراسات الإسلامية منذ الحرب العالمية الثانية
يمكن توضيح التقدم في الدراسات الإسلامية منذ الحرب العالمية الثانية بإختصار في ثلاثة مستويات: مستوى المؤسسات والتنظيم، ومستوى المجالات المغطاة، ومستوى توجهات جديدة ذات طبيعة أكثر أصالة.
أ. المؤسسات والتنظيم
ثمة توجه، حذر في أوربا وتدريجي في أمريكا الشمالية، للتعيينات الجامعية في اللغات الإسلامية والتاريخ الإسلامي، فضلا عن البحث العلمي الإجتماعي عن المجتمعات الإسلامية، لضمّ عدد متزايد من الباحثين والعلماء من الدول الإسلامية نفسها. وإذا ما كان هؤلاء مصادر معلومات أساسية عن اللغة في بداية الخمسينيات، فإنهم في الوقت الحاضر علماء مسلمون مؤهلون قد يشغلوا مناصب على أعلى المستويات أيضا. إن العدد المتزايد للطلبة المسلمين في الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية يعني إن إمكانات التعليم والإتصال قد تضاعفت لا في مجال التعليم فحسب، وإنما في مجال البحث أيضا. وأياً كانت الأفكار عن المستشرقين في الدول الإسلامية، فإن الإتصال المباشر معهم في الغرب أصبح ممكنا على نطاق وبطرائق لا يمكن تخيلها قبل الحرب العالمية الثانية.
وإلى جانب الجمعيات العلمية الشرقية القديمة، تأسست منظمات جديدة لتعزيز دراسة الشرق الأوسط والإسلام تحديدا، ولتشجيع المناهج الجديدة والطرائق الحديثة في التقصي. وأخذت المنظمات المحلية، على نحو متزايد، تنضوي تحت مظلة منظمات اكبر تحفز البحث والتعاون المشترك، مثل ”الاتحاد الأوربي للعرب والمسلمين“ في أوربا، و”جمعية دراسات الشرق الأوسط“ لأمريكا الشمالية. وإلى جانب الإجتماعات والمؤتمرات الكبيرة، تُنظّم حلقات دراسية وندوات من نوع جديد بشأن مواضيع متخصصة، بحضور عدد مقيد من المشاركين من دول مختلفة. وظهر نوع جديد من المعاهد البحثية، لاسيما للدراسات الإسلامية، بمكتبات جيدة، مثل ”معهد الدراسات الإسلامية في جامعة مكجيل“ في مونتريال. وهناك أيضا العديد من المراكز مكرسة لدراسة العلاقات الإسلامية ـ المسيحية في كل من: هارتفورد، سي. تي، في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وفي بيرمنغام، في إنكلترا؛ والمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية في روما.
ومع ذلك، هناك بعض التطورات المثيرة للقلق أيضا. إذ إن التخفيضات في الميزانية الحالية في معظم الدول الغربية تهدد مستوى الدراسات الإسلامية. وهناك حالاتٍ عدّة أتاحت فيها مساعدةٌ مالية من مؤسسات إسلامية أو من دول إسلامية لكراسي الأستاذية بالبقاء. وفي ظل حالة البطالة القائمة كان من الممكن أن تكون برامج ترجمة مثل ترجمة تاريخ الطبري ذات فائدة كبيرة فيما لو شُرِع بها، بتمويل من المؤسسات الإسلامية أو الدول المنتجة للنفط، حيث يمكن للأكاديميين من الجيل الأصغر سنا أن يُوظفوا على نحو مفيد.
ولابد من توجيه عناية كبيرة بأن تواصل المؤسسات الأكاديمية الغربية ضمان حرية البحث والنشر في حقل الإسلاميات مثلما هو الحال في الحقول الأخرى. وفي بعض الحالات السيئة الأخيرة، مورس ضغطٌ من جماعات النفوذ الإسلامية بخصوص التعيينات والمنشورات الجامعية المتعلقة بالإسلام. وفي حالات أخرى، كانت البرمجة النظرية المفرطة، أو نظام دراسة الإسلام الذي يتبع مسارات آيديولوجية متزمتة، يعيقان البحث وظهور الأفكار الجديدة. فالدراسات الأكاديمية الإسلامية ينبغي أن لا تخدم مصالح خاصة وإنما تطور ميدانا مستقلا للتعليم والبحث.
[size=25] وقد زاد التاريخ الحالي من الإهتمام بالشرق الأوسط والحركات الإسلامية في المنطقة وبالإسلام عموما. وقد حفزت هجرة ملايين من العمال المسلمين إلى أوربا الغربية المزيد من البحث المفصل عن أساليب المسلمين بالحياة على نحو عام وفي الغرب على وجه خاص.
ب. بعض ميادين البحث
على النقيض من المرحلة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، فإن الحاجة إلى التخصص ما بين المتخصصين بالدراسات الإسلامية (Islamicits) والعلماء في الدراسات الشرقية عموما أصبحت أمرا لا مفر منه. فإذا كان بمقدور بعض العلماء، في المرات السابقة على الاقل، تحقيق نموذج معين من الإنسان العالمي، فقد أصبح كل المستشرقين متخصصين في الوقت الحاضر. ومن بين هؤلاء تطور تمييز بين أولئك الذين ينفذون بحوثا عمّا يسمى قطاعات البنى التحتية ”الصلبة“ للمجتمعات الإسلامية (ولاسيما العلوم الإجتماعية) وأولئك الذين يدرسون ما يسمى قطاعات اللغة والأدب، والفن والتاريخ، والثقافة والدين ”الأكثر ليونة“ (ولاسيما العلماء الإنسانيون). وقد ظهر تمييز أيضا بين أولئك المتخصصين الذين يعملون على دراسة مجتمعات إسلامية ومناطق وحقب معينة، وبين أولئك الذين يعملون على دراسة تعابير ثقافية معينة مثل الفن أو الدين، وهي مشتركة في المناطق الإسلامية كلها. ونشير الآن، في سبيل المثال، إلى بعض ميادين البحث التي اكتسبت أهمية منذ الحرب العالمية الثانية.
أولا وقبل كل شئ، نُشرت مسوحٌ ببلوغرافية نفيسة عن التاريخ الإسلامي (كلاود كاهن، وجَي. دي. بيرسون، وجَي. سوفاجة) وجُمعت مصادر مخطوطة (إس. سيزكن). واُجريت أبحاث تاريخية رصينة طبقا للمسارات التي وُضعت منذ ظهور الدراسات الإسلامية (هاملتون اليكساندر روسكين جب، وغوستاف ادموند فون غرونباوم، وهنري لاوست، وبرنارد لويس). وضمن عالم الدراسات التاريخية، تمتع التاريخ الإجتماعي والإقتصادي بتطور سريع (كلاود كاهن، ومكسيم رودنسون)، وسُلط ضوء جديد على بدايات الإسلام وتاريخ الفكر الإسلامي (ويليام مونتغمري واط). ويقدم المجلد (Islamologie) (تحقيق إف. إم. باريجا) حقل الدراسات الإسلامية وحالتها كما كانت تُفهم في خمسينيات القرن العشرين.
ثانيا، أدى التحليل النقدي الفيلولوجي والأدبي المطبق على القرآن إلى ظهور أسئلة جديدة بشأن تاريخه المبكر وتأليفه (أي. نيوويرث، جون ادورد وانسبورو). وعلى نحو مشابه، وفرت الأبحاث النقدية للحديث النبوي المزيد من التبصر في تاريخ وطبيعة هذا النوع من الأدب ووظيفته (جي. إتش. أي. جوينبول)، فضلا عن معناه ومعنى القرآن بصفته ”كلاما إلهيا“ (دبليو. أي. غراهام). وقد طُرحت أسئلة جديدة فيما يخص التاريخ المبكر للإسلام (إم. كوك وباتريكا كرون). وعلى نحوٍ مساوٍ تم تحليل الفكر الإسلامي المبكر وتم تحديد بعض المواقف الأساسية (جون فان إيس). وأثبت البحث المتأني في علم الدلالة اللغوية للمصطلحات الدينية فائدته في فهمنا للنصوص القرآنية وغيرها من النصوص الدينية (تي. إيزوتسو). وفتحت الأبحاث العلاماتية بُنىً أساسية في الخطاب والكتابة الإسلامييّن (محمد اركون).
وأولي المزيد من الإهتمام لفكرة الأمة الإسلامية بأشكالها المثالية (لويس غارديت)، وفي حقيقتها الإجتماعية (ويليام مونتغمري واط) على حد سواء. وأدى هذا إلى المزيد من الأبحاث بشأن الوضع القانوني والإجتماعي للمرأة ضمن المجتمعات الإسلامية في الماضي والحاضر (جي. أشا، و إل. بيك ـ نيكي كيدّي وكثير غيرهم)، وبشأن الوضع القانوني والإجتماعي للأقليات غير الإسلامية على حد سواء (أي. فاتال، وشيلومو دوف غويتين، وألبرت حوراني، وبرنارد لويس)، وسير عمل المؤسسات الدينية، ولاسيما السلطات الدينية (العلماء، وشيوخ الصوفية) (نيكي كيدّي) والتعليم الديني (جورج مقدسي).
وأجريت أبحاث مكثفة عن الإسلام خارج الأراضي الإسلامية، في شبه القارة الهندو ـ باكستانية مثلا (أي. أحمد، وأنيماري شميل، ولفرد كانتول سمث)، وفي أفريقيا (جَان كووك، وجَون سبنسر ترمنغام).
أما الميدان الذي نادرا ما كان موجودا قبل الحرب العالمية الثانية، لأسباب عدة، وتوسع على نحو مهول، فهو ميدان التطورات المعاصرة في الإسلام. وأصبحت المسوح الشاملة نادرة (هاملتون جب، وولفرد كانتول سمث، ودبليو. إيند ـ يو. شتاينباخ)؛ وأصبح التخصص قاعدةً هنا أيضا. وإستمر توجيه الإهتمام بالإسلام الشعبي (إل. آر. و إتش. كرس)، فضلا عن الأشكال الطائفية للإسلام المُشاع (كلاوس إي. موللر)، والممارسات الخاصة بالعبادة (سي. بادوك)، والتصوف (أي. شميل). وقد إجتذبت المظاهر الإسلامية للتاريخ الإجتماعي الحديث (جاك بيرك)، وللتطورات السياسية (أو. كاريه وجَيمس بيسكاتوري، وكثيرون غيرهم) في العالم العربي وفي أماكن أخرى، إهتماما أكثر من أي وقت مضى. ويصح الشئ نفسه على تطورات ”الطرق الصوفية“ (؟) في العصور الحديثة (ميشيل غلسينان، وفرانك دي يونغ)، ولحركات الإصلاح والتحديث (أي. حسين، و مالكولم إتش. كِر وآخرون)، فضلا عن الإخوان المسلمين (ريتشارد بي. ميتشيل).
وبسبب التطورات الأخيرة في إيران وفي أماكن أخرى، أصبح المذهب الشيعي ميدانا لإهتمام متجدد (أول الكل إتش. كوربن، وفيما بعد سيد حسين نصر عن مظاهره المعرفية؛ إتش. عنايت، وكَي. إتش. غوبل وغيرهم في الفكر السياسي)، وبخصوص التاريخ الأحدث لإيران (نيكي كيدّي، وآن. كَي. إس. لامبتون).
إلا إن الإسهام الأكثر جدارة بالذكر وابتكارا لمعرفتنا عن الإسلام الحي في وقتنا الحاضر ربما يكون ما قام به الأنثروبولوجيون المتخصصون في مناطق إسلامية معينة (سي. غريتز، وإيرنست غيلنر، وميشيل غيلسنان وغيرهم)، أو أولئك الذين يقومون بمسح شعوب إسلامية مختلفة (آر. في. ويكيس).
ومن ميادين البحث التي لا تزال قيد التطور ميدان دراسة الأديان المختلفة المتعايشة جنبا إلى جنب في منطقة واحدة، في الشرق الأوسط مثلا (ارثر جون آربري)، وفي شبه القارة الهندية (ولفريد كانتول سمث). واُثيرت تساؤلات بشأن العلاقات والتفاعل بين المسلمين والطوائف الدينية الأخرى في التاريخ (ولفريد كانتول سمث)، وتطور المعرفة في العالم الإسلامي بشأن الأديان الأخرى وتشكيل صورٍ عنها (جي. مونوت، وجان جاك واردنبرغ). وكانت العلاقات بين العالم الإسلامي وأوربا موضوعا لدراسات تاريخية ومقارنة (ميشيل كانارد، وغوستاف ادموند فون غرونباوم، وألبرت حوراني، وبرنارد لويس).
وأصبحت دراسة الأقليات الإسلامية خارج الدول الإسلامية ميدانا جديدا للبحث، لاسيما منذ هجرة العمال المسلمين إلى أوربا وتأسيس طوائف تركية وشمالية ـ افريقية بالدرجة الأساس هناك (فيلايس داسّيتّو، توماس غيرهولم ـ ينغفه جورج ليثمان، وجلس. كيبل، وجورجين إس. نيلسن، و إتش. سفر وغيرهم).
ح. توجهات جديدة
السؤال الذي لابد من طرحه، إلى أي مدى تغيرت النظرة العلمية عن الإسلام في العقود الأخيرة، لا في توسع مواضيعها ومضامين أبحاثها فحسب، وإنما في الطريقة التي فُهم بها الإسلام والمجتمعات والثقافة الإسلامية عموما أيضا؟ أو على نحو أكثر تحديدا، هل تغيرت نظرتنا إلى الإسلام جوهريا منذ العصور الكلاسيكية التي برز فيها غولدزيهر و سنوك هيرغرونج، أو لنقل منذ الحرب العالمية الأولى؟ لابد أن تكون الإجابة بالإيجاب.
ففي المقام الأول، تحققت الاختراقات بفضل الابتكارات التي قام بها بعض العلماء البارزين: إذ استكشف لويس ماسنيون قوىً روحية غير معروفة إلى حد كبير في الإسلام؛ وشدد غوستاف ادموند فون غرونباوم على المقارنات الجوهرية بين التعابير الثقافية الوسيطة في العوالم الإسلامية والبيزنطية واللاتينية؛ وأكد ولفريد كانتول سمث على دور الصراع الطبقي وصراع الاستقلال القومي من خلال التضحيات الإسلامية للإسلام، ومن ثم على الطبيعة الفريدة للإيمان في الدين الإسلامي وإتخاذه أشكالا مختلفة؛ ودعوة كليفورد غيرتز وآخرين إلى الإهتمام بالأنماط الأساسية واختلافات المعاني ضمن المجتمعات الإسلامية؛ ومحاولة مكسيم رودنسون، بتقديمه الحجج والبراهين، لإعادة النظر في أهداف وأدوات البحث في الدراسات الإسلامية وتسليط ضوء جديد على الآيديولوجيات الإسلامية التي تطورت في التاريخ وفي الوقت الحاضر على أساس عوامل البنى التحتية.
وفي المقام الثاني، أحدث ظهور دول إسلامية مستقلة تغييرا مهما في الرؤية. فإذا كان الجيل الأقدم من المتخصصين بالإسلاميات يعدّون الإسلام المعاصر، كالعادة، خاليا من التعبير السياسي وإن المجتمعات الإسلامية لا تتطور إلا طبقا لحاجات الغرب وتوجيهاته، فإن الباحثين الذين بدأوا عملهم بعد الحرب العالمية الثانية، في حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، كانوا قد طورا، على نحو حتمي، وجهات نظر مختلفة كليا عن العالم الإسلامي الحالي، مشددين على ديناميكيته الداخلية الخاصة.
وفي المقام الثالث، إن المسلمين أنفسهم أكدوا هويتهم الإسلامية الخاصة خلال العقود الأخيرة بطرائق كان من الصعب تصورها في حقبة الخمسينيات. ومثل هذا التأكيد الذاتي في الأقوال والأفعال، ومن ضمنه النشاط السياسي المكثف، لم يعد بالإمكان أن يُفسر على انه مجرد تمرد ضد القانون والنظام الغربي. إذ كان له حافزه الخاص منذ أواسط الستينيات، بل وأكثر حتى أواخر السبعينيات كانت له تأثيراته غير المتوقعة على المستويين السياسي والديني على حد سواء، مقاوما أشكال الهيمنة الحالية المختلفة. وقدّم المتخصصون بالدراسات الإسلامية المسلمون (فضل الرحمن، ومحمد أركون) العاملون في الجامعات الغربية تفسيراتهم الخاصة لمثل تلك التطورات، إذ طالب محمد اركون بالعمل من أجل علمٍ إسلامي تطبيقي. ومرة واحدة، أصبح العلماء الغربيون أيضا، في مواجهة المسؤوليات الجديدة، سواءً كانت بحثية أو إجتماعية.
أدى ذلك كله إلى نقلة معينة في النظرة إلى الإسلام والعالم الإسلامي عموما، بمضامينها من أجل تطوير البحث الأكاديمي. ويمكننا تلخيص هذا التغير في النظرة من خلال محاولة لتحديد ثلاث مراحل متتالية تقريبا منذ الحرب العالمية الثانية كانت كلٌ منها تتضمن توجها جديدا نحو الإسلام.
أ. المرحلة الأولى هي التي أعقبت الحقبة الإستعمارية مباشرة.
إذ مال العلماء خلال حقبة الأربعينيات والخمسينيات إلى أن يكونوا مطلعين جيدا على تأثيرات الثقافة الغربية في المشهد الأوسع للمجتمعات الإسلامية، التي كانت قد تحررت للتو من الهيمنة السياسية الغربية. وإنصبت بؤرة الإهتمام على عمليات التحديث، وعلى قدم المساواة أحيانا مع ”التغريب“ (westernisation). وكان يُنظر إلى الإسلام على انه تقليد قديم بدا انه يفتقد أساسه تحت سياسات الزعماء القوميين ذوي التفكير العلماني بعد الإستقلال. وربما يمكن أن يُنظر إلى تفسير فون غرونباوم للإسلام الحديث بصفته بحثا عن الهوية الثقافية (سنة 1962) تمثيلا لهذا التوجه الذي، في أي حال من الأحوال، اتخذ موقفا إيجابيا نحو مستقبل العالم الإسلامي ذي الهوية التاريخية والثقافية المتميزة. على هذا الأساس، فإنه ميّز نفسه عن وجهات النظر الأكثر تشاؤما لعلماء الحقبة الإستعمارية أمثال سنوك هيرغونجه، الذي كان يرى أنْ ليس ثمة مستقبل إلا من خلال الانصهار بالغرب.
ب. بدأت المرحلة الثانية عندما لاحظ العلماء إن ثمة تغيرات إقتصادية وإجتماعية هائلة وجذرية تجري في الدول الإسلامية، غالبا بعد الثورات الداخلية. وتنبه الباحثون في المجتمعات الإسلامية المعاصرة لإستغلال الإسلام بصفته آيديولوجية إجتماعية تسوّغ التغيرات الإجتماعية الضرورية أو المرغوبة. إذ أخذ الإسلام، بدلا من كونه عودة من الماضي، يستعمل اداةً للتأثير من قادة مؤثرين أمثال جمال عبد الناصر. وكانت صفة ”إسلامي“، بمعزل عن الإيحاء بشئ عتيق، توظّف لربط الحلول الحالية بتقليد ديني مقدس قديم. وأخذ العلماء يدركون إن العمليات والأحداث الجارية في الدول الإسلامية ينبغي أن تُدرس لا من حيث النظريات الغربية فحسب، وإنما ضمن إطارها الثقافي الخاص بها أيضا، الإطار الذي تصبح فيه ذات معنىً أكبر. وأصبحت كل الوظائف الإجتماعية للأفكار والممارسات الإسلامية، أو الأساس الإجتماعي للتفسيرات المتغيرة للإسلام، أو الأسباب الإجتماعية للتغيرات في المؤسسات الدينية، أو المؤسسات التي إكتسبت شرعيتها عن طريق الدين، خاضعة للبحث. وأصبح العلماء مدركين إن عناصر الإسلام يمكن أن تنقل المعاني السياسية والإجتماعية والدينية في آن واحد، وإن أدلجات محددة للإسلام، أو أفكارا وممارسات إسلامية منتقاة، يمكن أن تروق ظاهريا لمجموعات محددة في أحوال خاصة. بإختصار، كان هناك اكتشاف للإسلام بصفته آيديولوجية إجتماعية، وبدأ علماء الإجتماع بالتعاون للبناء على هذا الاكتشاف، بحثا عن الإسلام.
ج. وبتأكيد الإسلام لنفسه لا بصفته هوية آيديولوجية إجتماعية فحسب وإنما آيديولوجية دينية أيضا، بدأت مرحلة جديدة.
يمكن أن يؤرّخ ذلك، عموما، منذ أواخر حقبة الستينيات في الشرق الأوسط ومن ثم انتشر إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي ككل. نتيجة لذلك، اخذ الإهتمام الأكاديمي يتوجه نحو الإسلام أكثر بصفته دينا وإيمانا يُستغاثُ به بطرائق مختلفة طبقا للبلد والجماعة. وفي الوقت الذي إعتُرف به بصفته دينا يوفر معاييره وقيمه المطلقة الخاصة، فقد اخذ يُنظر إليه لا على إنه أداة للعمل السياسي فحسب وإنما بصفته نموذجا للاستغاثة ضد الأنواع المختلفة من الظلم والحرمان الإقتصادي والاضطهاد السياسي أيضا. وفي هذه المرحلة، فإن إسهام دراسة الدين مطلوب لتعرية المظاهر الدينية، من بين مظاهر أخرى، الخاصة بالمناشدات الحالية للإسلام.
ولضمان المحافظة على المعايير الأكاديمية (البحثية) والحفاظ على الصرامة الفكرية عندما يكون الدين موضوعا للتقصي، لابد من إتباع الملاحظات
قديسة المطر- ♛ الفخامة ♛
- جائزه تسجيل للعام 10 اعوامتاج 100 موضوعجائزه عدد النقاطتاج المواضيععدد المشاركات بالمواضيع المميزهوسام التميزجائزة الاعضاء المبدعونجائزه المواضيع امميزه
- عدد الرسائل : 1133
العمل/الترفيه : الفكر..
الابراج :
الموقع : https://stst.yoo7.com
احترام القانون :
المزاج : تذكرني بكــره
نقاط : 17000
السٌّمعَة : 13
تاريخ التسجيل : 06/07/2009
تعاليق : يغــار [ قلبـي ] كثر ماتحبك الناس
ومن طيبك أعذر كل منهو ][ يحبـك ][
مدام كل [ الناس ] بـك ترفع الراس
أنا أول أنسان وقف ][ يفتخر بك ][
» الأبعاد الأساسية للشخصية - أحمد محمد عبد الخالق - هـ. ج ايزنك
» مصطفى محمود
» مصطفى محمود
» سكربت ترجمة فريد خاص بالمسنجر
منتـديات مكتـــوب الاستراتيجية للبحث العلمي MAKTOOB :: الابحــــاث التــربـويـــة والقـــانونيـــة والتـــاريخيـــة :: رسـائل ماجستـيــر ودكتـــوراة الابحــــاث التــربـويـــة والحقوقيـــة والتـاريخيــة و بـحـوث جـامعيـة جـاهــزة :: ابحاث التاريخ والاثار